«سينماتوغراف» ـ حاوره: صالح ذباح
«أُريدُ مِنْ زَمَني ذا أنْ يُبَلّغَني مَا لَيسَ يبْلُغُهُ من نَفسِهِ الزّمَنُ»
بهذه الأبيات للمتنبي يفتتح المخرج السوري أمير فخر الدين فيلمه الروائي الطويل الأول «الغريب» في مقدّمة تشي بشاعرية ستأخذ بالانسياب والتآلف على امتداد الفيلم بأنساق وعناصر بصريّة تتوالى لتشكّل وحدة فيلمية ينصهر بها المكان والشخوص وحوارها والتوظيفات الصوتية من حولها بحرفيّة تخلق رمزيّة دون كليشيهات، تأويلاتٍ دون مباشرة، وخصوصية تعبيرية دون انغلاق على نفسها. «الغريب» أقرب إلى تداخل حسّي بإيحاء من فنون أقدم كالشعر والرسم لم تكن لتكتمل لولا الفعل السينمائي، هو فيلم يؤكّد ضرورة السينما كفن لا يستبدله الشعر أو الرسم أو الأدب، ويؤكّد لقاء المخرج الثلاثيني أمير فخر الدين الأفكار السابق ذكرها، لما يحمله من فهم مركّب لمقاصد العمل السينمائي وبنائه، وفيما يلي تفاصيل الحوار.
ـ ما هي الأسئلة والمشاعر التي حرّكت بداخلك صنع هذا الفيلم وما هو نوع التوجه للحالة التي يعيشها عدنان الشخصية الرئيسية؟
أستطيع القول إنّ الفيلم مجموعة مشاعر لناس أعرفها ليست فقط لي… هو أشبه بكولاج شعوري، كان لدي أسئلة عديدة، وابتدأ أوّل سؤال من ذلك الشعور بأنك مختلف ويٌنظر إليك كغريب. دومًا ما أثارت اهتمامي الأغنام السوداء على مستوى الأدب الذي قرأته والأفلام التي شاهدتها…الشخصية التي تخوض صراعًا داخليًّا وغير قابلة للاكتمال مع محيطها، لكن صراعها الداخلي أعمق بكثير من هذا الصراع الخارجي، شعور الغربة الداخلي هو ما حفّزني. من أوائل الإلهامات الأدبيّة كان «التحوّل» لفرانتس كافكا، قرأتها ما يقرب من العشرين مرّة وأشعرتني بشيء ما أعرفه، وبغضّ النظر عن غياب أسباب لاستيقاظ شخص متحوّل إلى صرصور في الرواية، أثار فضولي المعالجة وكونه يعاني مع عائلته ويفقد صلته بهم لاختلافه عنهم وشعرت كم هو قريب. هذا النوع من الأدب يعالج النتيجة وليس السبب وهذا هو نوع التوجه الذي تبنيته في معالجة الفيلم وكتابة النص، يشرب عدنان الكحول، ولا أحد يدري لماذا، وما من أحد يعلم إن درس الطب في موسكو فعلا أم لا، هنالك شخصية أو ظرف أو عاطفة معطاة، طريقة المعالجة هذه توسع آفاق الشخصية والمشاعر المرتبطة بها.
ـ في «الغريب» كانت هناك مساحات رجولة هشة ومقموعة على أكثر من مستوى وتداخل درجات القمع فيما بينها. اختيارك لهذا النوع من البطل هل هو خيار تعبيري صعب أم كان موجوداً بشكل تلقائي في شخصية عدنان ووالده؟
علينا أن نضع الرجولة بالذات تحت المجهر، نحن كمجتمع عربي وذكوري، نرث الحروب ونورّثها لمن بعدنا، نخون مهمّاتنا كأجيال حتّى لا نواجه ذواتنا، وكذلك في فيلمي القصير «بين موتين» أول ما أردت الحديث عنه هو الرجولة الهشّة، على السطح يبان الكبرياء ولا يريد الأب (محمد بكري) أن يتحدث مع زوجته (إلهام عرّاف) في الحقل المفتوح وأصوات الحرب تتوالى من خلف التلال وهما نفس الأم والأب في الغريب، قد يكون لديه انزعاج وغضب مما يحصل على صعيد الوطن… هذه الشخصيّات منّا وفينا وظاهرة في الفيلم، واستطيع القول إنّ هنالك شيئًا في رتابة الشخصيات أو أحاديّتهن على مستوى بنائهن، مثل كميل الأب في «بين موتين»، اهتممت بأن يكون مونوتون… أن يبدأ من نفس المكان الذي ينتهي به وأن لا يمرّ بتغيير وهذا بالضبط ما أراه في العِند الموجود في الرجولة، فعندما تضعها أمام المشاهد وترى شخصية كهذه في السينما تنكشف فورا هشاشتها، عندما يظهر عنيدا ولا تعالجه أو تجعله يصل إلى غايات معينة ينكشف ضعفه، خاطر بشخصية رتيبة مونوتون ولكن الجمهور بهذا المفهوم يلمس هشاشاتها، هنالك مثلث علاقة بين الفكرة والإطار والمشاهد وهذا مثلث برأيي فيه معادلات رهيبة وأحاول دائما أن أفهم كيف يمكن ان استخدمه بأفضل الطرق.
ـ في فيلم وجداني من هذا القبيل لا بدّ أنك استوحيت بعض الأحداث من شخصيات حقيقية أو من أحداث من الطفولة…
لا أحبّذ أن أفسر وأعطي تأويلات للفيلم لكن طفولتي في الفيلم موجودة مثلاً في مشهد حوار يدور بين عدنان وزوجته حين يتحدّثان عن الهجرة وتركّز الكاميرا على الطفلة، أستطيع القول إن طفولتي موجودة في هذا المشهد، أذكر أهلي وهم يتحدّثون عن الهجرة لكندا، وكان ما بينهم اختلاف حول الفكرة، أشعر الآن أنّني أتطرق لأوّل مرّة لهذا المشهد بهذه المشاعر، يوم صنعت المشهد لم أكن أحمل هذه الوعي تجاهه. أحاول أن أصنع أفلاماً محرّكها المخاوف المستقبلية وامتنع عن عكس تجربة شخصية، أفضّل خلق عالم خاصّ تقودني فيه الثيمة ومخاوفي المستقبلية وليس تجاربي السابقة، بالتأكيد من الممكن إيجاد طفولة ما، بنت عدنان بشكل ما هي طفولتي في الصمت والتأمل بعلاقة الوالدين.
ـ لا يمكن التعامل مع «الغريب» من منظار سينمائي تأريخي بمعزل عن امتداد ما لإرث السينما السورية وتعاملها مع الجولان المحتلّ بالذات عمر أميرالاي ومحمّد ملص. هل ترى نفسك امتدادًا لهذا الإرث وأين تجد نفسك من السينما الفلسطينية، كونك معلّق سينمائيا وسياسيّا بين سوريا الوطن الأم والداخل الفلسطيني المحتلّ؟
أشعر أني أنتمي إلى أميرالاي وملص وإلى السينما السورية بالتأكيد، وهما ملهمان جدا لي خاصّة أميرالاي حتى في أفلامه الأولى، التأمل ورؤية التفاصيل التي تمرّ مرور الكرام في أي فيلم آخر كان يأخذها أميرالاي ويعطيها اهتمامًا فائقًا… أحب «طبق السردين» كثيرا. أشعر أنني متأثر بالتأكيد، السينما الفلسطينية وصلت لي، أقصد أنا وصلت إليها من بعد السينما السورية، عندما أتابع أي فيلم فلسطيني أشعر بقرب رهيب وأشعر أنه يحاكيني، الجولان هو نقطة انصهار ما فيها كل شيء معلّق، الشيء الجيد الوحيد الذي قد يخرج من حالة كهذه هو مسؤوليتك، لا تحصل على إرث فجأة، أنت مسؤول عن تكوين إرثك… انعدام الاتصال المباشر بين وطن أم ومؤسسات وسينماهات وبعدنا عن الشعب الفلسطيني جغرافيا يجعلك في هذه الحالة المحفّزة التي أتحدث عنها.
ـ في خياراتك البصرية والسمعية صهر للفنون الأقدم كالشعر والرسم. اقتباس بيت شعر للمتنبّي في بداية الفيلم ونص الخاتمة الذي يلقيه عدنان بأداء وجودي مؤثر لأشرف برهوم فيه فلسفة وإيقاع يكمل فهم الفيلم، ماذا تقول عن هذه الاقتباسات؟
النص الأخير كتبت أغلبه واقتبست من جبران خليل جبران ومن شاب سوري يدرس في ألمانيا أبهرني خصوصا أنه خاطب فتاة اسمها ليلى. كتب جبران عن الغريب، وأرى أنّه لم ينل حقّه من التقدير وهو ملك الأبسورد والوجودية وفي النهاية تنسب هذه الألقاب لكتاب من الغرب مثل كامو جاءوا بعده بخمسين عاما، انا كمستهلك للأدب فخور عندما أقرأ لجبران أو للمتنبّي…لدينا كنوز وفي فيلمي قدّمت لهم تحيّة كتخليد وإعجاب، وكذلك تأكيد على أنّ حالة الغريب حالة إنسانيّة قديمة.
ـ «الغريب» جزء من ثلاثية قادمة، ما هو تصورك للأفلام المستقبلية؟
إن كان هذا الفيلم عن الغريب بين أهله وناسه، فالقادم سيكون عن غريب بين غرباء. عدنان شخصية لا تغادر مكانها مثل معنى اسمه وكما جاء في الفيلم شجرة التفاح التي تغرس في غير تربتها تفقد طعمها، يواجه معاناته من خلال هذا الطرح الفلسفي ويفضّل أن يظلّ جزءًا من المعاناة على أن يهجر بيته. سيتناول الفيلم القادم الشخص غير القادر على العودة من المنفى أو المهجر… سأطرحه عليك بسؤال شاعري: ماذا يحدث إن قام الماضي بنسياننا؟ أما الجزء الثالث فأنا متشوّق له جدا، ستكون شخصيته الرئيسية امرأة وأختتم بها لأنها في اعتباري الأمل والقدرة على التحمّل والشجاعة. هنالك لوحة من عصر النهضة أثّرت في وجعلتني أفكر بهذه الثلاثية، وهي لوحة «مشهد من الطوفان الكبير» للفرنسي جوزيف ديزيريه، ترى فيها رجلا عاريًا على صخرة وتحته في الماء رجلا عجوزا يشرف على الموت غرقًا وما من أمل في إنقاذه، ومن ناحية أخرى تتكئ امرأة على غصن زيتون رافعةً طفلها إلى الرجل كي ينتشله، وبعكس كل الإضاءة في اللوحة يظهر وجه البطل مظلّلًا صوب زوجته والطفل ويحاول جاهدًا إنقاذ العجوز الميت وبجانبه وشاح أحمر في تلميح إلى الدين، يحاول بطل اللوحة أن ينقذ الماضي والتراث والدين ولا يفكر بالمستقبل والإنسان، رأيتها مناسبة جداً لأي شعب أو مجتمع وبالتحديد مجتمعنا المتعلق بالإرث الذكوري والتقاليد والمشوّش عن أي نظرة نحو المستقبل والسلام.