«كان» ـ هدى ابراهيم
في شريطه «جولييتا»، المشارك في المسابقة الرسمية، قدم الأسباني بيدرو المودوفار، فيلما عاديا جدا يركز خصوصا على العلاقة المعقدة بين شابة وأمها ويلمح الى جهل الآباء بالمشاغل التي تعتمل في روح أبنائهم، لكن المخرج الأسباني الأشهر عالميا، لم ينجح في اضفاء طابع انساني شامل على تلك العلاقة تجعل المشاهد يتعاطف معها ويأخذه اليها، بل ظلت حكايته اسيرة ذاتها وبلا تفصيلات أخرى أو انفعالات تمتد لتمسك بروح المشاهد، رغم ان هذه السمة برزت في الكثير من أفلامه.
ويأتي عمل المودوفار الجديد بعد سقوطه الرهيب في عمله السابق، «العشاق العابرون» الذي يعتبر أسوأ أفلام المودوفار على الاطلاق، وهو الذي سبق له نيل سعفة مهرجان كان السينمائي عام 2009 عن شريطه «كل شيء عن أمي»، ويبدو ان حال الابداع السينمائي هو هذا، لا يمكن ان يظل على نفس السوية.
في «جولييتا»، مع ذلك، يعثر المشاهد على نفس مفردات اللغة المودوفارية، المنسوجة من دواخل ملونة وازياء شمسية فرحة بالالوان تتسع لعلاقات عاطفية تنمو بسرعة وتتعدد باستمرار.. هناك ايضا الأم التي صورها في اكثر من فيلم في السابق، لكن شريطه هذا يفتقد نكهة خاصة، نكهة البدايات وحميتها، ونكهة النضج الذي اعقب، لذلك يمر شريطه عاديا في حمى السباق.
ورغم جودة عدد من الأفلام التي قدمها مخرجون مخضرمون صنعوا مجد مهرجان كان في السنوات الماضية، مثل أعمال كين لوتش، وجيم جرموش الجديدة، بدت أفلام المودوفار وآلن ديلون، باهتة مكررة ليأتي التجديد هذا العام من مخرجين يقدمون أعمالهم الاولى (لا اقصد الفيلم الاول)، ويحملون نبضا مختلفا الى سيل الفن السابع المتوالي.
من هؤلاء، الألمانية مارن آد التي لا زالت في قمة سلم الاعجاب لدى النقاد عن مشاركتها والبريطانية اندريا ارنولد والكندي كزافييه دولان، والايراني اصغر فرهادي، واعمال هذين الاخيرين تعتبر من الأفلام المرتقبة التي لم يتم عرضها بعد، لكن التي تعلق عليها الآمال لناحية أفلام القمة.
من بين هؤلاء الجدد الذين يعتبرون فخر اكتشافات مهرجان كان السينمائي هذا العام، المخرج البرازيلي كليبير مينوزا فيلهو، المشارك بشريطه «اكواريوس ـ AQUARIUS»، وهو الشريط الروائي الثاني له بعد أعمال وثائقية وقصيرة.
والواقع ان حضور السينما البرازيلية في المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي امر نادر، لذلك يعلق كثيرون اهمية كبيرة على هذه المشاركة.
المخرج كليبير مينوزا فيلهو، يعيش في مدينة «ريسيف» شمال شرق البرازيل وفيها صور احداث شريطيه الاول والثاني الذي نحن بصدده.
في «اكواريوس» استعار المخرج عنوان الفيلم من اسم بناء تسعى احدى شركات العقارات الكبيرة لامتلاكه بهدف تحويله الى برج عملاق، لكن سيدة تسكن البناء ترفض بيعه للشركة وتصمد على قرارها رغم عمليات الترغيب والترهيب وشتى الضغوطات التي تمارس عليها.
في ثلاثة فصول ومقدمة يتوقف الفيلم عند سيرة هذه المرأة التي تؤدي دورها بابداع كبير، الممثلة صونيا براغا، لتقف منفردة في مواجهة شركة عملاقة تريد اكتساب مزيد من المال عبر المتاجرات العقارية وعمليات الهدم الوحشية التي تغير وجه المدينة، خصوصا واجهتها البحرية المطلة على المحيط.
كلارا ترفض باصرار وحزم بيع منزلها فيتوقف مشروع الشركة ولا تتمكن من هدم البناء الصغير.
من خلال حياة ويوميات كلارا يثير المخرج بشكل واقعي موارب وغير مباشر قضية التحولات غير المخطط لها التي شهدتها البرازيل خلال مرحلة النمو الاقتصادي قبل سنوات قبل ان يحد منها من جديد تراجع التنامي الاقتصادي لهذا البلد.
هذه التحولات، يقول المخرج، قضت على أجمل ما في المدن البرازيلية من عمران لتحل محله غابات الباطون العملاقة ومعها أسلوب الحياة المختلف الذي يتماشى وطبيعتها.
كأن للأمكنة أرواح كما البشر، وكأن المنازل تشبه سكانها. في الفيلم، يبدو عمر العمارة الصغيرة من عمر تلك المرأة الستينية تقريبا، وتمسّك كلارا ببيتها هو تمسكها بتاريخها الشخصي وذكرياتها التي تستدعيها فتهرب اليها صورة الفيلم مختصرة حصار العمارات الشاهقة اليها، لتصبح ملجأه.
التمسك بالبيت عندها، هو تمسك بهذه الذكريات، حيث ولد ابناؤها وتربوا وكبروا قبل ان يغادروا المنزل الذي تقرر هدمه ليس لانه لم يعد صالحا بل لاطماع مادية لدى كبريات شركات العقار الاستثمارية.
تركها البيت يعني تركها لنمط الحياة الذي عاشته، لذلك تقول انها لن تترك بيتها، الا ميتة، أما في حياتها فيمتزج واقعها وراهنها بالذكريات، كلاهما يسيران معا في خط مستقيم ويمتزجان.
كلارا اصلا، ناقدة موسيقى متقاعدة، وكما الذكريات فإن فضاءها الداخلي يعبق بالموسيقى بشكل مستمر وفي تناقض حتمي مع الخارج الذي لا يتوقف ضجيجه، وحيث الكل يحتفي بالمادة بدل ان يحتفي بالحياة وهذا ما تحسن فعله هي وجيلها.
وفي المواجهة التي تبدو أقرب الى الحرب الباردة بين الطرفين، تبدو هي الأقوى في صراع الإرادات كونها تتسلح بإنسانيتها في مواجهة الخراب، وتصمد، ويتحول الصراع بحد ذاته الى صراع بين انماط عيش مختلفة، نمط مادي مستجد ونمط أقدم تسوده القيم وينقرض رويدا، تماما، مثل تلك الطبقة الارستقراطية التي تنتمي اليها العائلة أصلا.
أما التوتر الذي ينشأ من الخلاف بين النمطين فهو الخيط الذي يشد سكة الفيلم بينما ينسج المخرج البرازيلي مفردات لغته من خيوط الواقعية الجديدة التي عادت لسينما البرازيل وأميركا اللاتينية عموما.
معاني الفيلم تتخطى بكثير تلك المدينة البرازيلية إلى بقية المدن التي واجهت نفس المصير، ومدن العالم الأخرى ومنها بيروت، التي واجت تماما نفس المصير: «انه قانون السوق في عالم اليوم الساعي الى اجبار المستهلك على شراء الكثير من الاشياء التي لا يحتاجها» يقول المخرج متناولا موجة الاستثمارات العقارية الطاغية هذه.
غني عن القول ان مثل هذه المشاريع تكرر في الكثير من المدن البرازيلية، لكن أيضا في وسط بيروت، وفي بعض أماكن القاهرة الاثرية وكثير من أانحاء العالم التي تتشابه في زمن العولمة هذا.
هذه المباني ذهبت وأخذت معها تاريخها. إزالتها تعني إزالة تاريخ المكان وتغيير روحه.
كأنهم يريدون لكل هذه الموسيقى التي تسكن البيوت أن تسكت الى الابد، لأجل المصالح الخاصة، بينما السلطات الرسمية لا تتخذ اية اجراءات ضد ذلك، لتصبح شريكا في الجريمة.
«اكواريوس» شهادة جميلة ومؤلمة عن هذا الخراب الاضافي الذي يتوالى وبوجوه وصور كثيرة في قرية كبيرة اسمها العالم.