«سينماتوغراف» ترصد أفلاما لها تاريخ وتفتح نوافذ الذكريات في مصر عام 1933
بقلم : ناصر عراق
قبل يومنا هذا بـ 81 عاما، احتشدت الجماهير بالآلاف أمام سينما رويال في القاهرة يوم 4 ديسمبر من عام 1933، وما كان ذلك إلا انتظارًا لعرض أول أفلام مطربها المحبوب محمد عبد الوهاب، حيث وصل الزحام أوجه لدرجة تعطلت معها شوارع وسط القاهرة، الأمر الذي دفع جهاز الشرطة إلى الدفع بأعداد كثيرة من رجاله لتنظيم المرور، ومواجهة الخبثاء الذين استغلوا هوس الناس بصاحب (يا جارة الوادي) فراحوا يبيعون التذاكر في السوق السوداء.
في تلك الأيام كان حسن البنا يعمل بهمة لضم المزيد من الأنصار إلى الجماعة التي أسسها في الإسماعيلية سنة 1928، فيما كان طه حسين (عميد كلية الآداب قبل أشهر فقط) يكابد مأزقاً حياتيًا عصيبًا إذ تم فصله (من جميع وظائف الحكومة) كما جاء في قرار مجلس الوزراء بالنص، بعد أن رفض بحسم أن تمنح الجامعة المصرية (جامعة القاهرة) الدكتوراه الفخرية لأربعة من باشوات وأنصار إسماعيل صدقي رئيس وزراء مصر آنذاك وصاحب السمعة السيئة في تاريخ الديكتاتورية!
وفي الحين ذاته كان حزب الوفد بقيادة مصطفى النحاس يسعى بكل قواه الجماهيرية إلى إسقاط دستور 1930 الذي أطاح بكل مكتسبات الشعب المصري التي صاغها في دستور 1923! وفي ذلك الوقت أيضاً كانت الجامعة المصرية قد بدأت تستقبل البنات بصورة كبيرة ليتلقين العلم في قاعاتها، بعد أن نزعت المرأة النقاب مع اندلاع ثورة 1919، وخرجت من كهف العصور الوسطى، كما كان نجيب محفوظ يطارد الفلاسفة وأفكارهم العجيبة بحكم كونه طالبًا في السنة الثالثة بقسم الفلسفة في كلية الآداب بجامعة القاهرة.
وفي يوم 4 ديسمبر عام 1933 أيضا كان الصبي محمد حسنين هيكل قد تجاوز عامه العاشر بثلاثة أشهر، وقد أوتي الكثير من عشق السؤال وحب الحكمة، وكان عبد الحليم حافظ مازال طفلاً يحبو لم يكمل عامه الخامس بعد في أثناء عرض الفيلم، أما توفيق الحكيم فقد أصدر روايته الأولى (عودة الوعي) قبل أسابيع قليلة، بينما تم فطام الطفلة فاتن حمامة إذ أكملت عامها الثاني منذ أشهر معدودات، أما الشيخ سيد الصفتي – صاحب أغنية بالذي أسكر من عذب اللمى، وآخر ما بقي من مطربي القرن التاسع عشر – فكان يغني ويهذي في حفلاته لاعناً عبد الوهاب وساخرًا من أدائه!
تعالوا أقص عليكم نبأ هذا الفيلم وكيف كانت أحوال مصر في ذلك الزمن البعيد.
ريادة الفيلم الغنائي
في عام 1933 كان يحكم مصر الملك فؤاد بن الخديوي إسماعيل ابن والي مصر إبراهيم باشا بن محمد علي باشا مؤسس الأسرة العلوية، وبالمناسبة يعد الملك فؤاد الوحيد بين حكام مصر الذي تمتع بلقبين هما (السلطان فؤاد من عام 1917، حيث كانت مصر قد تحررت تمامًا من سجن الدولة العثمانية فصارت سلطنة، وغدا حاكمها سلطاناً، ثم الملك فؤاد حين تحولت إلى مملكة سنة 1922، وقد ظل قابضاً على عرش مصر حتى رحيله في 28 أبريل 1936)، ولكن تلك قصة أخرى! وكان الملك فؤاد يكره سعد زغلول وحزبه، ثم انتقل البغض إلى مصطفى النحاس بعد وفاة سعد، لكن قوة حزب الوفد الذي يتكئ على شعبية جارفة ساعتئذ لم تسمح لفؤاد ورجاله أن يتجاوزوا الحدود، فبعد أن تمكن الملك من إسقاط دستور 1923 الذي ارتضاه المصريون، حيث صاغ وأعوانه دستورًا مشبوهًا سنة 1930، احتشد المصريون وقاوموا ببسالة حتى أسقطوا دستوره المعيب واستعادوا دستور 1923 عام 1934.
في هذا المناخ أقدم محمد عبد الوهاب على إنتاج أول أفلامه السينمائية بعد أن طلب من المخرج محمد كريم أن يتولى إخراج الفيلم بنفسه عقب نجاحه في إخراج فيلم (أولاد الذوات) عام 1932 وهو أول فيلم مصري ناطق. وقد احتل (الوردة البيضاء) رقم 31 في سلسة الأفلام الروائية المصرية التي بدأت بفيلم (في بلاد توت عنخ آمون) الذي عرض عام 1923 وحققه المخرج الإيطالي فيكتور روسيتو. كما أنه يعد الفيلم الغنائي الثاني في تاريخ السينما العربية بعد فيلم (أنشودة الفؤاد) الذي أنجزه المخرج ماريو فولبي وقام ببطولته جورج أبيض والمطربة نادرة والشيخ زكريا أحمد، وعرض في 12 أبريل 1932 بسينما ديانا كما جاء في كتاب (دليل الأفلام في القرن العشرين) لصديقنا الناقد والمؤرخ السينمائي محمود قاسم.
المثير أن التاريخ أنصف (الوردة البيضاء) إنصافاً كبيرًا ووضعه في أكرم ركن في لائحة أفلامنا الغنائية، بعد أن أهمل (أنشودة الفؤاد) الذي فشل فشلا ذريعًا بسبب سوء توظيف الأغاني، حيث ظلت نادرة تغني أكثر من 20 دقيقة في كل أغنية، الأمر الذي قصم ظهر الدراما وعطل انهمار الأحداث والوقائع، فأصيب الجمهور بالضجر، وانصرف عن الفيلم غير آسف!
جفنه علم الغزل في برلين!
استثمر عبد الوهاب ذكاءه الخارق، فصنع أغنيات فيلمه بأسلوب عصري مراعيًا ألا تتجاوز المساحة الزمنية لكل أغنية أكثر من عشر دقائق، فضلاً عن مواكبة الأغنيات لسياق الدراما، وهو أمر يعود إلى مهارة كاتب السيناريو والمخرج، وهو محمد كريم نفسه. كما انطلق عبد الوهاب بإيقاعاته الموسيقية في هذه الأغنيات إلى ذرى غير مسبوقة من حيث السرعة والحيوية والنبض الفني.
ضم (الوردة البيضاء) ثمان أغنيات هي بالترتيب (يا وردة الحب الصافي)، (سبع سواقي بتنعي لم طفولي نار)، للشاعر أحمد رامي، ثم (جفنه علم الغزل) للشاعر بشارة الخوري، ولم تكن مدرجة في الفيلم من الأول، حيث تم إدخالها عنوة بعد انتهاء تصوير الفيلم، والرابعة (ناداني قلبي إليك) لرامي، والسادسة (النيل نجاشي) لأمير الشعراء أحمد شوقي الذي كتب عدة أغنيات بديعة باللهجة العامية من أجل عبد الوهاب، قد أتناولها يومًا ما! أما الأغنية السابعة فكانت (يا اللي شجاك الأنين)، والأغنية الأخيرة (ضحيت غرامي عشان هناك) وهما من تأليف رامي.
الطريف أن محمد كريم فوجئ بعد أن انتهى من تصوير الفيلم بعودة عبد الوهاب من برلين وهو يطلب منه إدخال أغنية جديدة لحنها في برلين ضمن الفيلم، فبهت الرجل، ولكن تعال نطالع ما كتبه محمد كريم بنفسه عن هذه الواقعة في مذكراته التي نشرتها أكاديمية الفنون. يقول كريم (عاد عبد الوهاب من برلين، وما كاد يلقاني حتى طلب مني أن أنفرد به، وقال “فيه مسألة خطيرة جدًا يا أستاذ كريم”، فاضطربت قليلاً وبلعت ريقي، وقلت له: “خير.. فيه إيه؟”. فقال: “أنا سجلت أغنية جديدة في برلين اسمها جفنه علم الغزل، وهي من شعر بشارة الخوري، وقد لحنتها على نغمات الرمبا، ويهمني جدًا أن تدخل الأغنية دي في الفيلم بأي شكل، لا سيما أن هذا لون جديد من الموسيقى في مصر، وأنا واثق أنها ستنجح”. وهو ما تحقق بالفعل!
طرائف حول الفيلم
لو شاهدت الفيلم الآن ستكتشف أن المقدمة (التتر) بدأ هكذا (فلم عبد الوهاب يعرض رواية مصرية غنائية)، وكلمة (رواية) هنا مستعارة من عالم المسرح، إذ أن المسرحيين يقولون إننا سنعرض رواية كذا يوم كذا، أو أننا نعمل بروفات على رواية كذا، الأمر الذي يشير إلى أن مفردة (فيلم) لم تكن قد استقرت بعد لا عند السينمائيين ولا عند الجمهور! ولعلك لاحظت أن المقدمة قد كتبت بالخطوط الثلث والفارسي والديواني والنسخ مصحوبة بصور فوتوغرافية لكل العاملين في الفيلم من مؤلف القصة محمد متولي والمخرج والمصوّر ثم الممثلين، ويتبع كل كلمة عربية ترجمة فرنسية، وهي إشارة دالة على أن المصريين يرفضون استخدام اللغة الإنجليزية لأنها لغة المحتل في ذلك الوقت، ويبدو أن جميع الأفلام المصرية التي أنتجت قبل يوليو 1952 تستخدم الفرنسية إذا قامت بترجمة المقدمة، وقد حافظ المخرج يوسف شاهين على هذا العرف حتى وقت قريب قبل رحيله!
كذلك توضح المقدمة الحضور القوي للأجانب في صناعة الفيلم، فقد تم تصوير الفيلم في ستوديو توبيس بباريس، أما المصوّر فاسمه بريما فيرا، كذلك تلاحظ مفردات فرنسية تشيع في الحوار بين الممثلين مثل (بنجور/ بنسوار/ ميرسي.. إلى آخره) وهذه ظاهرة جلية في معظم الأفلام التي أنجزت قبل طرد الاحتلال الإنجليزي من مصر.
تقاضى محمد كريم مبلغ 450 جنيهًا نظير إخراجه للفيلم، وقد وقع العقد مع شركة أفلام عبد الوهاب التي كان مكتبها بشارع الموسكي، أما عبد الوهاب نفسه فكان يقطن في شارع سوارس بك رقم 4 بالعباسية، حيث التقى مع محمد كريم للتفاوض حول الفيلم. ووفقاً لما كتبه المخرج في مذكراته، فإن أجور الممثلين تراوحت بين خمسين ومائة جنيه، وقد شارك عبد الوهاب بطولة الفيلم سليمان نجيب وزكي رستم ودولت أبيض وتوفيق المردنلي ومحمد عبد القدوس والد الروائي الشهير إحسان عبد القدوس والوجه الجديد سميرة خلوصي، ومن عجب أن الفنان الكبير رياض السنباطي ظهر في الفيلم في لقطة وحيدة، حيث كان ضمن الفرقة الموسيقية لعبد الوهاب، وقال حين تأخر عبد الوهاب في حديثه مع والد حبيبته (وبعدين يا جماعة الأستاذ غاب قوي).
نجاحات وصراعات
يقول محمد كريم في مذكراته (كانت حفلة العرض الأولى في العاشرة من صباح يوم 4 ديسمبر 1933، ولعل هذه هي المرة الأولى التي يعرض فيها فيلم في مصر في الصباح، إذ أن العادة جرت على الاكتفاء بعرض الفيلم حفلتين فقط ماتينيه وسواريه)، ويضيف مخرج الفيلم (إن السوق السوداء التي تتربص بشباك التذاكر في كل فيلم ناجح عرفتها مصر لأول مرة في حفلات الوردة البيضاء، وكان ثمن اللوج في حفلة السواريه 60 قرشاً.. كان اللوج خارج الشباك بعشرة جنيهات كاملة).
عرض الفيلم في سينما رويال، وهي دار عرض يملكها أجانب، وكانت هناك دعوة شبابية عالية النبرة تحض الشعب على عدم التعامل مع أي منتج أجنبي، لتشجيع البضاعة المصرية، واحتج الصحفي الكبير أحمد الصاوي محمد في مقاله (ما قل ودل) بالأهرام على مقاطعة دور العرض الأجنبية واصفاً دور العرض المصرية بالأصطبل! لكن صحيفة (الصرخة) ترد على الصاوي قائلة (إن الأصطبل المصري خير من أفخم قصور الأجانب المستغلين)، فتحايلت سينما رويال ونشرت في إعلانتها قبل العرض بأسبوع (أنت مصري.. ومصريون هم الذين أخرجوا لك ما نشاهده، ففاخر بمصريتك وشاهد فيلم الوردة البيضاء بسينما رويال ابتداءً من يوم 4 ديسمبر سنة 1933)، وسرعان ما توقف الشباب عن التحريض ضد سينما رويال، وبدأ الآلاف يزحفون نحو سينما رويال أفواجًا افتتاناً بمطربها المحبوب!
اللافت للانتباه أن كبار الشخصيات المصرية ذهبوا لحضور الفيلم، مثل طه حسين الذي كتب في جريدة (كوكب الشرق) التي كان يترأس تحريرها (تهنئة أريد أن أهديها خالصة صادقة إلى عبد الوهاب بعد أن شهدت قصة أمس، وبعد أن شاهدت رضا الناس عنها وإعجابهم بها، ولست أدري أأهنئه بما وفق إليه من الإجادة والإتقان، أم بما وفق إليه من رضا الناس وإعجابهم؟ أم أهنئه بالأمرين جميعًا؟ فكلاهما خليق بأن يهنأ به، وعبد الوهاب خليق بأن يظفر منها بأعظم حظ ممكن).
أما مصطفى النحاس زعيم حزب الوفد فقد قال عن الفيلم في كتيب وزعته سينما أوليمبيا (إنه مشروع وطني ناجح، ولا تقل رواية الوردة البيضاء في فخامتها عن أية رواية أجنبية شاهدتها، وفي كل مرة يشاهد فيها الإنسان هذه الرواية تظهر له محاسن لم يكن يراها في المرة السابقة)، وقد انتقدت صحف الحكومة بشدة ذهاب النحاس زعيم المعارضة لمشاهدة العرض في دار سينما أجنبية وكتبت (إن معنى الإعلان في جريدة الوفد المسائية أن النحاس باشا سوف يحضر حفلة العرض الأولى، يعني أنه يريد أن يحظى بتصفيق الجماهير، وكلنا يعلم أن خذلان القومية إثم كبير.. وأكبر منه أن يصدر عن رجل كالنحاس باشا!).
في حين تلقى عبد الوهاب برقية تهنئة من أم المصريين صفية هانم زغلول ترجو له (النجاح والتوفيق في كل مشروعاته الوطنية المقبلة). ولعلك لاحظت الاهتمام الكبير (بالمشروع الوطني) عند صفية هانم والنحاس باشا.
أجل.. حقق فيلم الوردة البيضاء نجاحات مدهشة، واستلهمت المحلات والمطاعم والمقاهي اسمه فأطلقته على نفسها، وعاش عبد الوهاب بعده 58 عامًا يلحن ويغني.. فيمتع الناس ويرقق مشاعرهم، وحافظ المصريون على عشقهم للموسيقى والطرب من قرن إلى آخر، وتبوأ عبد الوهاب أكرم ركن في وجدان الملايين، وها هي 81 عامًا تمر على عرض الفيلم ومازلنا ننتشي حين نسمع (جفنه علم الغزل).. وهذا هو المراد من كل فن جميل.