ـ محمد جابر
يبدو فيلم المخرج، دينس فيلنوف، (Arrival أو الوصول) مُجرَّدَ فيلم خيالٍ علميّ تقليديّ آخر عن الكائنات الفضائيّة القادمة إلى الأرض، إذ نحاول البحث عن طريقة للتواصل معها. ولكن مع قرب نهاية أحداثه، يظهر ثقله الأساسي. إذ يتحوّل الفيلم إلى عمل شاعري وشخصي جداً عن الزمن والخيال. وتبدو صورته الظاهرة عن الغرباء والتواصل معهم، حبكة ظاهرية لشيء أعمق كثيراً من كل هذا.
تبدأ أحداث الفيلم مباشرة مع وصول كائنات فضائية غريبة، وتمركزها في 12 نقطة من كوكب الأرض. ويستعين الجيش الأميركي بالدكتورة لويز، أستاذة وعالمة اللغويات، من أجل البحث عن طريقة للتواصل معهم، وهو الأمر الذي يرتبط بعد ذلك بماضي لويز وعلاقتها بابنتها التي نراها تموت في مفتتح الفيلم.
الحكاية تقليدية جداً في بدايتها، تبدو شبيهة مثلاً بفيلم “لقاءات قريبة من النوع الثالث” (1977)، إذ يبحث البشر عن طريقة للتواصل مع الغرباء، أو “اتصال” (1997).
يعبُر المخرج، دينيس فيلنوف، عائق التقليديّة بتفوّق وبجاذبيّة واضحة، لأنه يدخل في التفاصيل مباشرة، ولأنَّه يبتكر أسئلة متتالية يجذب بها فضول المشاهد عن الإشارات التي ترسلها الكائنات في المجسم الفضائي، وعن الشيء الذي يريدون قوله من خلالها.
لا يحاول الفيلم أن ينشغل بحبكات فرعية، الأمر الذي جعل مثلاً شخصيتي قائد الجيش “فوريست ويتكر”، وإيان دونيلي الفيزيائي “جيرمي رانير” سطحيتين بالنسبة لشخصيات أساسية. ولكن ذلك الخيار كان ناجحاً جداً. فالمهمّ، فعلاً، هو أسئلة: لماذا أتى الفضائيّون إلى الأرض؟ وماذا يريدون؟
بالتوازي مع ذلك، تتشكّل علاقة قويّة بيننا وبين الدكتورة لويز، وهو أمر يأتي من جانبين. الأول، هو قوّة أداء إيمي آدامز والجاذبية والرابط العاطف بيننا وبينها منذ إطلالتها الأولى على الشاشة، إذ إنّها تمثل دور الشخص الحاسم والمخلص جداً في عمله، بلمحة غامضة من الضيق والحزن والرغبة في الفهم. والثاني، هو فاعليّة التعامل مع “الفلاش-باكات” مع الابنة، وهي مشاهد عابرة جداً، ولكنّها مؤثرة أيضاً في آنٍ واحد، خصوصاً مع معرفتنا بمصيرها منذ مطلع الفيلم. ومرة أخرى تبدو خيارات، فيلنوف، كمخرج من الناحية البصرية، أو محاولة ربط ما يبدو أنه ذكريات لويز بالحاضر عن طريق المونتاج، كلها خيارات فاعلة جداً، وتمنح فيلمه الكثير.
ورغم ذلك، فإنَّ هذا الفيلم يعبِّر عن نفسه فعلاً في ربعه الأخير، يبدو كلّ ما حدث تمهيداً طويلا للنقطة المحورية، هذا فيلم عن الزمن وليس عن المكان. وقوة الاكتشاف، هي أن ما كنا نظنه ماضيا، ليس كذلك، بل هو المستقبل. وأن الشتات الذي نجمعه طوال الأحداث، هو ما سيحدث، وليس ما حدث، وهو الانقلاب الذي يترك أثراً عنيفاً وقوياً جداً في المشاهد، ويمنح كل شيء رأيناه منظوراً آخر. شيء يتجاوز “التويست” أو “نقطة التحول” بكثير (وهو أمر لم يكن منتظراً من الأساس في فيلم رصين وهادئ مثل هذا)، ولكن حين يحدث، فإن عاصفته تأتي من أنه يغير من كل أسئلة وتفاصيل الفيلم، لا يصبح مهماً، الفضائيون، ولا كيف سيذهبون، ولا مصير الأرض وعلاقتها بهم. ولكنه يتحول لسيمفونية شديدة الشاعرية، وبمنحى ذاتي عما الذي سيحدث إذا كنا نعرف المستقبل، وعن خيارات لويز (التي تورطنا معها ومع حياتها بشكل كاف طوال الأحداث السابقة).
ومن أجل أن نشعر في تلك اللحظة بقسوة الاختيار أو صعوبته، أو درجة الحزن الشديدة فيه، والمرتبط تلقائيّاً بالسؤال الذي تسأله لويز لإيان، ويبدو مُوجهاً أيضاً للمشاهد: لو كنت تعرف المستقبل فهل ستتخذ نفس الخيارات؟
دائماً، ما امتلكت أفلام “الحركة في الزمن” و”أثر الفراشة” (حيث ما تفعله الآن يؤثر في المستقبل والعكس)، قوة حقيقية في مساءلتها لجوانب القدر والمصير والخيارات الإنسانية. نرى ذلك، مثلاً، في أفلام كلاسيكية مثل La Jetée للمخرج الفرنسي، كريس ماركر، عام 1962، واقتباسها في فيلم Twelve Monkeys الأميركي عام 1995.