اذا كان للسينما البريطانية من عنوان في هذه المرحلة من تاريخها فهو المبدع كين لوتش الذي كان وراء كم من التحف الخالدة في ذاكرة السينما البريطانية والعالمية ولعل من ابرزها تحفته الريح التي تهز حقل الشعير الذي فاز عنه بجائزة السعفة الذهبية عام 2006
وبعد عامين من قرار اعتزاله السينما يعود عن قراره ليقدم للسينما فيلم «انا دانييل بليك ـ I Daniel Blake» الذي يمثل تعميقا للنهج الذي راح يشتغل عليه حيث قضايا الانسان في بلاده.
الفيلم يأخذنا الى حكاية دانييل بليك دافي جونز ذو التسعة وخمسين عاما والذي تعرض لأزمة قلبية حالت دون ان يكمل عمله كنجار في نيوكاسل. بعدها تبدأ محاولاته في العودة الى العمل او الحصول على مساعدة تمنحه القدرة على اكمال حياته بسلام دون الحاجة الى الآخرين .
تتزامن تحركاته في خط متقاطع مع حكاية كاثي هايلي سيكرز الأم الشابة التي تعيل طفلين فتاة وفتى وتعاني من البطالة وقلة فرص العمل وغياب الدعم المادي لها ولأطفالها مما يضطرها للعمل في الاعمال البسيطة بحثا عن لقمة العيش ويقوم دانييل بمساعدتها في عدد من المواقف مع تدهور حالتها المادية حيث تظل الاحداث دائما تتحرك في جملة من المراكز الخاصة بتقديم الدعم والمساعدات المادية للمحتاجين .
تبدأ مشكلة دانييل حينما تتعقد الامور أمامه يوما بعد آخر حيث يطلب منه تعبئة الطلبات بواسطة المواقع الخاصة من خلال الانترنت فكيف وهو يعاني من الأمية في هذا الجانب وفي كل مرة المزيد من التعقيد والطلبات التي لا تكاد تنتهي بل تذهب به الى متاهات في غاية الصعوبة من طلب السيرة الذاتية الى كم آخر من الطلبات التي تبدو تعجيزية امام انسان قضى جل حياته ملتزما بعمله وتنفيذ التزاماته تجاه الدوله التي راحت تتخلى عنه وعن أمثاله الذين يعانون العجز والمرض.
وتمضى الايام هو يعانى ضيق اليد والحال وهي تعانى ذات الامر ويذهب معها ومع أطفالها الى ما يسمى بـ بنك الطعام الذي يقدم المساعدات للمحتاجين وفي واحد من أكثر المشاهد قسوة تقوم كاتي بفتح احدى المعلبات وتلتهم ما فيها وهي تبكي لانها جائعة جدا.
بل تذهب الى ما هو أبعد من ذلك حينما تقوم بالسرقة من احد المحلات ويساعدها المسؤول الأمني بعد ان قبض عليها أحد المراقبين والذي يعطيها عنوانه مؤكدا لها انه يمتلك المقدرة على مساعدتها وهو ما يوصلها الى ممارسة الدعارة والرذيلة من أجل الحصول على المال وحينما يكتشف دانييل أمرها تطلب منه ان يتركها وحدها مع أطفالها ومشاكلها الكبرى.
وهنا تتفجر أحاسيس ومشاكل دانييل الذي يشاهد نفسه وهو يبيع كل أثاثه وكاتي تبيع نفسها مما يضطره الامر الى كتابه عدد من الشعارات على واجهة المكاتب الخاصة بتقديم المساعدات.
وبعد القبض عليه وتهديدة بالسجن تقوم كاتي بمساعدته من أجل فتح ملفه من جديد ولكنه يلقى حتفه في مرحاض المركز بعد ان داهمته أزمة قلبية عنيفة.
فيلم كبير وقاس عن قسوة الأزمة الاقتصادية والقوانين الجائرة والتي يذهب ضحيتها الأبرياء والفقراء والشرفاء الذين يسقطون ضحية القوانين التي تظل تسوف الامور ولا تعطي من ضحى بحياته وقدم التزاماته اي شيء عن الحاجة او العجز.
فيلم يصرخ كعادة أفلام كين لوتش التي تتفجر غضبا على الواقع وعلى أهمية الدولة والمشاكل الاقتصادية التي تعصف بالانسان والمجتمع البريطاني بكافة شرائحه وقطاعاته .
سينما الدارما الاحتماعية التي تدق الاجراس وتشير بأصابع الاتهام للمؤسسة الاقتصادية التي تسيطر على كل شيء وتحول الانسان الى مجرد ترس في آلة كبرى حينما يتعطل يذهب الى الهامش والنسيان.
فيلم «انا دانييل بليك» هو في حقيقة الأمر تحفة ذات جودة عالية وهو ليس بالأمر المستغرب على مبدع كبير بقامة ومكانة كين لوتش الرائع.