من القضايا التي شغلت السينما العالمية خلال الآونة الأخيرة قضية الهجرة التي باتت تؤرق الحكومات والشعوب علي السواء، ووضعت دولاً منها محاذير عديدة أمام المهاجرين جعلتهم يحتالون في سبيل البقاء، بعدما ضاقت عليهم بلادهم بالحروب والدمار مما دفعهم للهرب بحثاً عن أمان مفقود.
من الأفلام المهمة التي تناولت تلك القضية الفيلم الفنلندي «الجانب الآخر للأمل» من اخراج أكي كوريسماكي، الذي فاز بالدب الفضي لأفضل مخرج في الدورة الأخيرة لمهرجان برلين. اشتهر كوريسماكي برؤيته الساخرة والتي ميزت أفلامه مثل «قاعدة اللعبة» و«الرجل بدون ماضي» الذي حصل علي الجائزة الكبري في مهرجان كان السينمائي 2002.
في أحدث أفلامه «الجانب الآخر للأمل» الذي يشارك في مسابقة الأفلام الطويلة بمهرجان الجونة، يختار كوريسماكي قضية الهجرة من خلال رحلة الشاب السوري خالد الذي يهرب من نار مدينته حلب، بعد أن فقد أسرته نتيجة الدمار وتفرقوا في رحلة هروبهم حتي أنه يفقد شقيقته مريم خلال رحلة هروبهما معاً علي الحدود.
يضطر الشاب لدخول هلسنكي عبر شاحنة فحم، ويتقدم بطلب اللجوء السياسي إلي السلطات الفنلندية التي تحتجزه في مأوي يضم عشرات المهاجرين الذين ينتظرون تقنين أوضاعهم، ويتعرف علي أحدهم وهو عراقي سبقه إلي المجئ ولديه خبرة تفوقه بالإجراءات الطويلة، التي يستغرقها الحصول علي الإقامة القانونية.
بعد بحث حالته وأوضاع بلاده، وبينما تبث نشرات الأخبار ما يجري من دمار في حلب يأتي رد السلطات الفنلندية برفض طلبه، بدعوي أن بلاده يمكن العيش بها، ويتم حجز تذكرة طيران له للسفر إلي أنقرة علي نفقة السلطات ليعود لبلاده ويتم التحفظ عليه حتي موعد الرحلة، إلا أنه يغافلهم ويهرب ليبدأ سلسلة من المعاناة.
يبدو تعاطف كوريسماكي مع بطله واضحاً منذ البداية، لكنه لايكتفي بهذا التعاطف وإنما ينتقل إلي التحريض أيضاً علي مقاومة هذه الإجراءات اللانسانية، ويستعرض كيف يتعرض بطله لمواقف عنصرية حين يهاجمه بعض مواطنيهم ويعتدون عليه، ويتركونه مصاباً وهم يسخرون منه ويتوعدونه بقولهم «إلي اللقاء ياراكب الجمال»، ثم يتحول إلي مطارد من السلطات التي توقف المشتبه بهم للتحقق من هويتهم.
رغم سوداوية الواقع إلا أن الفيلم يوحي بكثير من الأمل، حين يلتقي الشاب بصاحب مطعم فنلندي، ويحدث بينهما اشتباك طارئ سرعان ماينتهي علي مشهد مناقض تماماً، حيث يأكل خالد بشراهة والرجل ينظر له بشفقة ويتعامل معه بتعاطف كبير، وحين يسمع قصته يجعله يقضي ليلته داخل المطعم ويضمه لفريق العمل، بل ويبدأ في رحلة بحث لاستخراج هوية له حتي لو تم بطرق غير قانونية، وكأنه يقول للسلطات المسؤولة أنتم بلا إنسانيتكم تدفعون اللاجئين لطرق غير قانونية، وأنتم الذين تزرعون الكراهية، وهو ما يؤكده علي لسان خالد الذي يقول لزميله العراقي «كتير حبيت فنلندا، لكن لو وجدت لي مكاناً آخر بعيداً عنها يكون ذلك أفضل».
الفيلم رغم مأساوية قضيته، إلا أن المخرج العبقري يقدم مشاهد تحقق متعة المشاهدة، فهناك الموسيقي الساحرة والأغاني التي تتقاطع مع الأزمة من خلال الفرق التي تقدم أغنياتها في المطعم والبارات التي يرتادها البطل، بل أنه يجعل من بطله عازفاً للعود في بعض المشاهد، ولا يخلو الفيلم أيضاً من لمحات كوميدية حين يقرر صاحب المطعم إضافة السوشي ضمن وجباته لجذب الصينيين المقيميين بالمدينة، وكيف يرتبك الطباخين في إعداده ثم يرتدون الزي الصيني التقليدي ويصطفون للترحيب بهم والانحناء لهم.
لا يكتفي ويكستروم صاحب المطعم بكل ذلك، وإنما ينجح في الوصول لمريم شقيقة خالد التي انقذتها عائلة أفغانية علي الحدود ويجمعها بشقيقها من جديد.
«الجانب الآخر للأمل» هو الجزء الثاني في ثلاثية كوريسماكي عن قضية الهجرة التي قدمه في فيلمه السابق «لوهافر»، حيث يؤكد بنزعة انسانية أن هناك دائماً جانباً آخر للأمل علينا أن نتمسك به، فهو لا يؤمن بأغنية اختارها ضمن أغنيات الفيلم تقول «الطيور التي لا تملك أجنحة عليها البقاء في الأرض الباردة»، بل علينا أن نساعدها علي التحليق من جديد.