«باب الوداع»… الطموح وحده لا يصنع فيلماً
“سينماتوغراف” ـ أمجد جمال
لو كان أحدهم أخبرني أنه سيأتي يوماً يخرج فيه الناس من عرض سينمائي ليجدوا في انتظارهم كُتيّباً صغيراً يحتوي على شرح للفيلم الذي شاهدوه للتو، على طريقة «الكتالوج»، لقلتُ إنه يمزح. لكن هذا ما حدث بالفعل بعد العرض العالمي الأول لفيلم «باب الوداع»، للمخرج الشاب كريم حنفي، المشارك في المسابقة الرسمية لـ«مهرجان القاهرة السينمائى الدولي».
لست متأكداً من هو المسؤول عن هذا الفعل الفاضح فنياً، الذي يلجأ فيه فنان لوسيط خارجي لتقديم ما فشل به من خلال الوسيط الأصلي، هل هم القائمون على المهرجان؟ أم صنّاع الفيلم أنفسهم؟، وإن كنتُ أميل إلى أن المسؤول هم صنّاع الفيلم، حيث أن القائمين على المهرجان ليس بإمكانهم فك الطلاسم العجيبة لهذا الفيلم، لأنهم ليسوا من وضعوها أصلاً، وفى كل الأحوال الأمر يؤكد أن هناك شعور بمشكلة ما.
ليست مشكلة «باب الوداع» في انتمائه لاتجاه تجريدي تبسيطي شاعري، يقلل من أهمية التفاصيل والحبكة والقصة، في مقابل الاهتمام بالتجربة البصرية والانفعالية، وبالطبع ليست مشكلته أنه فيلم صامت، بل مشكلته أنه فيلم يفتقد بوضوح للغة تواصل حقيقية مع المتفرج. ليس شرطاً أن تكون تلك اللغة منطوقة، ما يهم أن تدل إلى فهم ما يريده الصانع، أو حتى على جزء منه.
لغة تجعل المتفرج يقتنع بأن عليه رؤية مشهد بمدة زمنية لا يعلمها إلا الله، تقوم فيها الفنانة سلوى خطاب بقصّ شعرها، وهي تنظر في اتجاه الكاميرا نظرة هلامية متخشبة، وأن يقتنع بأن عليه رؤية مشهد لشاب يقف وراء شرفة منزله ناظراً نحو الآفاق لمدة لا يعلمها إلا عالم الغيب، وأن يقتنع بأن عليه رؤية سيدة عجوز تجلس على أريكة وتدخن سيجارتها أو تحتسي قهوتها وهي تستمع للأغاني العربية الكلاسيكية لمدة بالمثل.
يقول صانع الفيلم فى المؤتمر الصحفي إن فيلمه ينقسم لثلاثة حكايات هي: للجدة والأم والإبن، والصراع يبدأ عند الابن مع وفاة الجدة، وعما إذا ما كان الابن سيبحث عن ذاته ليحققها متحرراً من الأم، وأنه يمكن تلخيص أحداث فيلمه بأنها رحلة من الموت إلى الميلاد.
هل أيّدت مشاهد الفيلم ما يقوله صانعه؟ ربما أيدته لأنها مشاهد هلامية مطاطة، يمكن لّ عنقها وتشكيلها وفقاً لأي رؤية، لكن من المستحيل إدراكها موضوعياً بالانفصال عن تصريحات الصانع، التي تتماشى مع «كتالوجه» الورقي الموزع عقب عرض الفيلم، بالإضافة لتجربته الشخصية التي تحدث عنها.
وهنا نصل إلى السؤال الجدلي، عما إذا كان المطلوب من الفيلم السينمائي أن يقدم رؤية صانعه، أم على كل متفرج وضع رؤيته الخاصة، وفى رأيي أن الحل الأخير لا يمكن إعتماده إلا في أضيق الحدود، أي أن الفنان لابد أن يكون كاتباً وقارئاً فى الوقت نفسه.
ربما ينجح المتلقي في قراءة نصه كاملاً، أو يكون الخط واللغة سيئان بفعل طغيان ذاتية الفنان، وانفعاله أثناء الكتابة، وهنا يأتي دور المتلقي في قراءة الكلمات غير الواضحة وفقاً لحدسه وتجربته الشخصية، أما أن يقرأ المتلقي نصاً كاملاً من «الشخبطة»، ويكون عليه تفسيره، فهذا درب من الخبل والادعاء من قبل طرفي المعادلة الإبداعية.
يتناسى فنانونا الجادون أن العمق بلا سطح متماسك يغلفه يصبح وقتها هو السطح نفسه، وأن الذاتية بلا أداة تواصل لم تعد ذاتية بل استمناء فكري، وأن الطموح وحده لا يصنع فيلماً.
أما لو حللنا الشق الجمالي والتقني للفيلم، فلن نخرج منه بما هو استثنائي، لن نخرج منه بما يعوّض تواضع الشق المعرفي. حسناً هناك أسلوب إضاءة مميز، ومناطق تصوير مهيبة، لكن ذلك لم يوضع في إطار يتناسب مع السينما كفن يتفوق على التصوير الفوتوغرافي بديناميكيته.
هناك لقطات عديدة في هذا الفيلم يمكن الاستمتاع برؤيتها على موقع «تامبلر»، أو على احدى الصفحات التي تروّج للاكتئاب والعدمية على فايسبوك، ولكن ليس في فيلم سينمائي. هذا عن الشق الجمالي، أما عن الشق التقني فمن الواضح أيضاً تواضعه، لاحظنا اهتزازات خشنة للكاميرا في مشاهد عديدة، كانت تتطلب مزيداً من المرونة والنعومة التي تحتاجها تلك النوعية من الأفلام. ورأينا طفلاً غير محترف فى بداية الفيلم ينظر خلفه نحو الكاميرا ويبتسم، متحدياً المناخ التنويمي الجاد الذي يكافح صانع الفيلم لإخراجه.
كما رأينا تخمة مزعجة من الإنتقالات إلى الأسود، عملت عمل فواصل الستار المسرحي الممل، وإن تفوّقت عليه نسبياً فهي لن تتفوّق على عرض بيانات في إحدى شركات الأعمال. هذا فضلاً عن بدائية المؤثرات الصوتية التى أفتُضح أمرها في مشاهد عدة، أبرزها المشهد الذي تمشط فيه الجدة شعرها.
أثناء خروجي محبطاً من الفيلم، خاصة بعد تصفيق الحضور الذي لا تدرى صدقه من مجاملته، وجدتُ المخرج الألماني فولكر شلوندورف، المُكرّم فى دورة هذا العام من المهرجان، يسير بجانبي أنا وصديقين، ويبدو أيضاً محبطاً، وجدتها فرصة لإجراء محادثة مع شخص حصلت أفلامه على الأوسكار والسعفة الذهبية، لأتأكد إذا ما كانت المشكلة في عدم إعجابي بالفيلم مني، أم ماذا، ودار الحوار التالي:
«هل أعجبك الفيلم»، سألته بشغف
رد بحذر وهو يضحك «لا… بصراحة لا أعلم»
«ألا تحب تلك النوعية من الأفلام؟»، سألت
«وماذا تكون هذه النوعية؟»
«هو يريد تقليد أندريه تاركوفسكي وتيرانس مالك»
«لا… لم يصل لذلك»
صديقي يقول إنه فيلم فني… لا أوافقه.
ردّ عليّ بسخرية ودودة، قائلاً: «لو كان هذا هو الفن فيجب عليّ أن أهرب من هنا فوراً».