حين عرض فيلم «بركة يقابل بركة» في مهرجان برلين خلال دورته الماضية وفاز بجائزة العمل الأول، كان اغلب نقاد السينما العرب يتطلعون لمشاهدته، باعتباره أول فيلم روائي طويل انتاج سعودي وبممثلين ومخرج ينتمون لنفس البلد أيضا، وعكس تجارب عديدة كانت تقدم السعودية بعيون وافدة لم تعايش البيئة بالقدر الذي يجعلها تستوعبها بكل تركيباتها ومن ثم يصبح الحكم عليها من الخارج قاصرا، وفي مهرجان قرطاج حظي الفيلم باهتمام جماهيري ونقدي، وفي مهرجان القاهرة قوبل بحفاوة كبيرة بعد ان ظلت السعودية غائبة لسنوات عن المشهد السينمائي.
ان ينتج فيلم سعودي وان يجري تصويره في شوارع جدة وبمضمون يتسم بالجرأة التي لم يعتدها هذا المجتمع، كلها مؤشرات تؤكد ان السينما السعودية قادمة وبقوة علي ايدي شبان وشابات درسوا السينما خارج بلادهم، ولم يعد مقبولا لديهم ان يسافروا الي دول مجاورة لمشاهدة الأفلام لعدم وجود دور عرض في بلدهم، وربما كان رهان مخرج فيلم بركة محمود الصباغ يستشرف المستقبل حين لم يستطع ان يعرض فيلمه في بلاده مؤكدا: فيلمي القادم سيعرض في السعودية.
ليست قضية فيلم «بركة يقابل بركة» في قصة حب جمعت بين شاب وفتاة لايستطيعان حتي ان يلتقيا سوي في جولة سريعة بالسيارة، انها قضية حرية المجتمع وسط تقاليد دينية ومجتمعية صارمة.
في اطار كوميدي اختاره المخرج بذكاء، وهو أيضا كاتب السيناريو، يعمد الفيلم من البداية علي تعرية المجتمع من خلال بطله بركة موظف البلدية الذي يقوم بتحرير المخالفات للمحال، وهو يتمتع بطيبة تجعله يتغاضي عن كثير من المخالفات، يعيش بركة في حي متواضع مع جيرانه الدادة سعدية التي تنصحه دوما بالزواج وزوجها دعاش الذي يسخر من كل شئ حتي من نفسه ومن زوجته، تبدو حياة البطل مملة لاينقذه سوي حبه للتمثيل واستعداده لتجسيد دور أوفيليا في مسرحية هاملت حيث يمنع المجتمع وقوف ممثلة علي خشبة المسرح، لاحظ ذكاء المخرج في التصدي لقضيته باحثا عن حريته وحرية المجتمع بكل السبل.
يذهب بركة ليحرر مخالفة لقيام فريق فني بتصوير اعلانات علي الشاطئ لفتاة انستجرام «بيبي» التي اعتادت تقديم اعلانات للأزياء علي الموقع الشهير دون اظهار وجهها، وحين يلتقيها يرتبك تماما ويتغاضي عن المخالفة حتي ينتهي التصوير، ومن أول نظرة يجد كل منهما ضالته في الآخر، لكن المشكلة التي تواجهها اين وكيف يلتقيان ليتحدثا ويتعرف كل منهما علي الاخر، في ظل ممنوعات عديدة تكاد تخنقهما.
تظهر بطلة الفيلم دون حجاب وترتدي أحدث صيحات الملابس بحكم كونها تعرض أزياء للبوتيك الذي تملكه أمها، وتقدم واجهة مختلفة للجيل الجديد من السعوديات اللاتي يتمردن علي واقعهن المقيد لحريتهن حتي في قيادة السيارة.
يتخاطف بركة وبيبي اللقاءات المتعجلة المحاطة بمحاذير عديدة حتي انهما يلتقيان في احد معارض الفن التشكيلي ثم يعلما بوجود جماعة الأمر بالمعروف التي تمنع الاختلاط بين الرجال والنساء، وتتعدد اللقاءات علي هذا النحو الذي يعري كثيرا من تناقضات المجتمع المحافظ، وتتأكد علاقة الحب بينهما وتبوح له بيبي باسمها الحقيقي بركة الذي ترفضه وتتمرد عليه وتختار اسم بيبي كما تكشف عن يتمها المبكر وان صاحبة البوتيك هي امها بالتبني.
رغم اهمية القضية التي يطرحها الفيلم الا ان مخرجه يعني بالرؤية البصرية، وبالعناصر الفنية ويفجر الضحك من خلال مفارقات كوميدية، كل ذلك وهو يطرح جانبا رومانسيا في قصة حب بطليه بركة وبركة، ويختار ممثليه بعناية ويكشف في فيلمه عن مواهب حقيقية تنتظر اشارة الانطلاق فبطليه هشام فقيه وفاطمة البنوي يتمتعان بحضور لافت، وموهبة في مواجهة الكاميرا وتفاعل تام مع الشخصية التي يؤديها كل منهما.
تبقي نهاية الفيلم المفتوحة لتثير كثيرا من التساؤلات عن مصير علاقة الحب في بيئة معادية، وهل يتمكنا من تتويج قصة حبهما بعد ان تقدم بركة ليخطب بيبي من والدتها بالتبني، وهل يمكن ان يستمر حبهما وينجحا في التحايل علي التقاليد المجتمعية ومطاردات الشرطة الدينية، ام يهزم حبهما الواقع، ان المشهد الاخير يترك كل الاحتمالات مفتوحة.
ويستعيد المخرج في فيلمه زمن مضي كانت فيه الحرية اكبر وكانت الفنون متاحة وكان صوت أم كلثوم يتردد في الإذاعة وكان المجتمع أكثر تسامحا وانفتاحا.
لاشك أن محمود صباغ يلقي حجرا في حرية الفرد داخل المجتمع السعودي، وحرية الفن وهو ينشد حرية المجتمع كله، الصباغ الذي درس السينما في امريكا وقدم تجارب في السينما الوثائقية يؤكد في فيلمه الروائي الطويل الأول موهبته واصراره علي طرح مالم يعد مسكوتا عنه، ويشارك بفيلمه في مسابقة الاوسكار لأفضل فيلم اجنبي كما فعلت مواطنته هيفاء منصور بفيلمها الرائع «وجدة».