القاهرة ـ «سينماتوغراف»
يُكرِّم مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، في دورته الـ43، الفرنسي تيري فريمو، المندوب العام لمهرجان “كانّ” السينمائي، والمدير العامّ لـ”معهد لوميير” في ليون. وهو تكريمٌ مستحَقٌّ لأحد أكثر الشخصيات تأثيراً في السينما العالمية اليوم. تيري فريمو الذي يتنفّس ثقافة الفنّ السابع وتاريخه، ومسؤول معروفٌ بعلاقاته الواسعة في الوسط الفني، وقدرته غير العادية على العمل المتواصل، وضبط التفاصيل الصغيرة إلى حدّ الهوس، بحسب متعاونين معه، نتعرف على سيرته الذاتية في السطور التالية.
هو من مواليد عام 1960، ورث فريمو حبّ السينما من والده المهندس في “كهرباء فرنسا”، قبل أنْ يُخصّص بحث تخرّجه بموضوع بدايات المجلّة السينمائية الفرنسية “بوزيتيف”. لكنّ توظيفه أجيراً في “معهد لوميير” (الأخوان لوميير مؤسّسا السينماتوغراف، والاسم بالفرنسية يعني الضوء بالعربية) عام 1983، بعد تطوّعه فيه لفترة، قَطَع بحثه لنيل الشهادة المعمّقة في السينما. بعد ذلك، بدأ مسار تعلّم ميداني عن فنّ الاحتفاء بتاريخ السينما وصنّاعها، كمدير فنّي للمعهد، إلى جانب معلّمه برتران تافرنييه، مدير المعهد. معاً، نظّما احتفالاً بالذكرى المائة للسينما، عام 1995: “ذهبتُ إلى تافرنييه لمحاورته عن “سينفيليته”، وعلاقته الباكرة بـ”بوزيتيف” من أجل بحثي. عرضت عليه أنْ ألتحق بالمعهد كمتطوّع، فلم يتردّد في الترحيب بي. لم أغادر المعهد منذ ذلك اليوم، الذي صدف أيضاً أنْ شاهدتُ فيه “الخروج من معامل لوميير” للمرّة الأولى. باختصار، هناك أيّام فارقة في حياة كلّ امرئ. كان هذا حتماً أحدها، بالنسبة إليّ“.
يسهر تيري فريمو منذ أكثر من 10 أعوام على تنظيم “مهرجان لوميير”، المتمحور حول إرث السينما، والاحتفاء بأبرز صنّاعها عبر جائزة لوميير، التي تعاقب على استلامها كبارٌ في الإخراج والتمثيل، أمثال كلينت إيستوود وكاترين دونوف ومارتن سكورسيزي وجين كامبيون. يشغل الرجل أيضاً مهمّة رئاسة شركة “سينما لوميير”، التي تُدير 3 صالات فنّ وتجربة، ويترأس “جمعية الأخوين لوميير”، المسؤولة عن أرشيفهما. من دون تناسي اشتغاله الإخراجي، إذْ أنجز “لوميير، وتبدأ الحياة” (2016)، وثائقي يرتكز على مونتاج 108 أفلام للأخوين مُخترعَي السينما، مع تعليق بديع يقرأه بصوته.
قبعات عدّة في حوزة رجلٍ لا يدّخر جهداً في المنافحة عن السينما وقضاياها، كلّما دعت الحاجة إلى ذلك. مثلٌ أول: في الفترة الحرجة، التي مرّت بها صناعة السينما، خصوصاً مُستغلّي الصالات، بسبب الإغلاق الاحترازي الذي تلى استفحال وباء كورونا، كتب رسالة مؤثّرة (28 ديسمبر 2020) احتفاءً بمرور 125 عاماً على تنظيم أول عرض سينمائي، جاء فيها: “تتعطّل صالات السينما للمرّة الأولى. ما لم تنجح في فعله الحروب العالمية، حقّقه وباءٌ كورونا. كنا نودّ من كتّاب الأعمدة أنْ يخطّوا، عوض مقالاتهم عن الموت المزعوم للسينما، وقفة تفكيرٍ رقيقة، أو بعض عبارات الاعتراف، وأنْ يُذكّروا بإسهام الفن السابع في الحضارة الإنسانية”. مثلٌ ثان: مساندته منتجي أقراص “دي في دي” بعد الإعلان عن الضرر الكبير الذي أصاب مبيعاتهم في فترة الحجر الصحي: “أنا مجنونٌ بعشق الـ دي في دي. أعتقد أنّ صنع مكتبة أقراص أفضل من تخزين الأفلام في حاملٍ غير مادي. ناشرو الأقراص يعبّرون عن ضرورة الحفاظ على الـ دي في دي، باعتباره شيئاً ثميناً. إنّهم على حقٍّ. لا أحد يجرؤ على المناداة بتعويض الكتاب الورقي بالألواح الإلكترونية، لكنّ الجميع يتبجّحون بمواكبة التطور التكنولوجي عندما يتعلّق الأمر بالسينما“.
تولّى فريمو، منذ عام 2007، مهمّة المندوب العامّ لأهمّ مهرجان سينمائي في العالم (مهرجان “كانّ”)، بعدما شغل مهمّة المسؤول عن البرمجة فيه منذ عام 2003، بطلبٍ من جيل جاكوب. ينسّق المندوب العام عملية انتقاء الأفلام، ويسهر على نجاحها، بإشرافه على البرمجة الرسمية، التي تمنح المهرجان هويته، مُحقّقةً المزاوجة بين دواعي التسويق والصيت الإعلامي، وبصم اختيار فنّي يُنبئ بنوع السينما التي يدعمها المنظّمون، ونوعية المواهب التي يُراهنون عليها. كما يرأس المندوب العام أشغال فريق المهرجان طيلة السنة، ويشرف على فريق التنظيم، المؤلّف من مئات المتعاونين، أثناء انعقاد المهرجان، ويحرص على توفير أفضل الظروف لاستقبال ضيوف المهرجان من مختلف الاختصاصات.
طبع تيري فريمو برمجة “كانّ” باختيارات قوية، أهمّها إعطاؤه مكانة أكبر لسينما التحريك وأفلام النوع، تكلّلت بحصول أفلام راديكالية، مُتجذّرة في النوع، على السعفة الذهبية في الأعوام الأخيرة، كـ”بارازيت” (2019) للكوري الجنوبي بونغ جون ـ هو، و”تيتان” (2021) للفرنسية جوليا دوكورنو. كما ساهم في منح الفيلم الوثائقي حيّزاً أهمّ في البرمجة والأضواء، بإنشاء جائزة “العين الذهبية”، بالتعاون مع جولي بيرتوتشيلي، عام 2015.
تشرّبه من منبع الاعتناء بإرث السينما في ليون أسعفه، عام 2004، في تدشين فقرة “كلاسيكيات كانّ”، التي أضحت موعداً لا يُتخلَّف عنه لمشاهدة أفلام خالدة من سجل السينما العالمية، في نسخٍ مرمّمة، ووثائقيات حديثة عن أفلام وشخصيات من تاريخ السينما.
وفياً لحسّ النقد الذاتي، لا يتردّد تيري فريمو عن الاعتراف بأبرز إخفاقاته، فيعضّ على شفتيه تحسّراً كلّما تذكّر كيف فرّط فريق الانتقاء بـ”تايك شيلتر” لجِف نيكولز، الذي أفلت من شِبَاك المسابقة الرسمية و”نظرة ما”، ليشارك في “أسبوع النقاد” ، ويُتوَّج بجائزته الكبرى، ويُصبح ـ بحسب كثيرين ـ أحد أفضل أفلام 2013. في لحظات انتشاء ومحطات خيبة وحزن، تَشكّل البرنامج اليومي للمشرف على مقاليد مهرجان عملاقٍ، اقتسم تفاصيلها في كتابه “مسابقة رسمية” (2017). مُؤلَّفٌ فريد، يجمع الملاحظات التي دوّنها في مذكّراته بين ختام دورة 2015 وختام دورة 2016: “أردتُ القول كيف تجري الأمور. أنْ أكتب عن وسطٍ مهني، مختلف ومشابه لأوساط أخرى، يُظهر التماسك فينةً، والانفلات والموهبة فينة أخرى. أردتُ أنْ أكون مخلصاً لكلمات روبيرتو روسّيليني: “أنا لستُ هنا لآخذ أو أصدر أحكاماً. أنا هنا لأعطي“.
وثيقة مهمّة، تكشف طريقة اشتغال مهرجان “كانّ” من الداخل. علاقة المندوب العام مع لجان التحكيم والنقّاد ووسائل الإعلام، إلى تفاصيل أخرى مثيرة عن علاقاته بمخرجين وفنانين، يحضرون المهرجان. على غرار هذا المقتطف الطريف عن لقائه الأول بجوليا روبرتس”: رأيتُ جوليا، فقمْتُ بتحيّتها. حاولتُ التظاهر باللامبالاة، بينما أنا في قمّة الانتشاء من الداخل. عندما أمسكَتْ ذراعي لأقودها على الدرج، كنتُ على وشك أنْ أنزف من أنفي“.
بالإضافة إلى السينما، هناك الـ”جودو”. رافدٌ آخر غذّى حياة تييري فريمو وأسلوبه في العيش. مارسه منذ نعومة أظفاره، متنقّلاً بين قاعاته، حتّى أتقنه، وأضحى معلّماً لفنّ الاستعانة بقوّة الآخر، لطرحه على الأرض، بدل إيذائه. خصّص كتابه الثاني، “جودوكا” (2021)، لحكاية كيف ساهم الـ”جودو” في تشكيل قدره، حين مدّه بدروس ثمينة، ساعدته على شقّ طريقه، أهمّها التركيز الفائق، وتطوير قدرات الذات بتجريدها من كلّ الشوائب، والمثابرة في العمل، والإصرار على تحقيق الأهداف.
في الكتاب نفسه، يُحيّي الثقافة اليابانية، التي تركت تأثيراً كبيراً في نفسه، بتكريم جيغورو كانو، مبتكر الجودو، ومبدع أخلاقياته الرفيعة. من دون أنْ ينسى المرور على الأفلام اليابانية المهمّة، التي احتفت بالـ”جودو”، وأبرزها “أسطورة الجودو العظيم الجديدة” (1945) لأكيرا كوروساوا، الذي تُزيّن لقطة منه غلاف الكتاب.
في المزج بين الحزم اللّين للـ”جودو” والشغف السخي للسينما، يمكن رؤية المفتاح الأنسب لاكتشاف شخصية تييري فريمو. الحزم الشغوف دفعه إلى فتح أبواب “كانّ” أمام أفلام الاستديوهات الكبيرة الأميركية، مُصرّحاً بأنّه “يفضّل عملاً تجارياً جيداً على فيلمِ مؤلّفٍ سيّئ”. لكنّه كان من أوائل الداعين إلى عدم التّساهل مع عرض أفلام المنصّات في المهرجانات، منتقداً بشدّة منحها بطاقة بيضاء لعرض أفلامها بحرية في المهرجانات الكبرى، ومُتمسّكاً بشرط خروج الأفلام إلى الصالات، كي تُنْتَقَى في المسابقة الرسمية لـ”كانّ”، بعد التجربة المريرة التي خاضها مع نتفليكس في الدورة الـ70 (17 ـ 28 مايو 2017)، عندما اختار فيلمين من إنتاجها، “حكايات مايروفيتز” للأميركي نواه بومباخ و”أوكجا” للكوري الجنوبي بونغ جون ـ هو. يومها، أخلفت المنصّة الأميركية وعدها بإطلاق الفيلمين في القاعات المظلمة، بعد مشاركتهما في المهرجان: “هناك حوارٌ مفتوحٌ وصريحٌ معهم، لكنّنا على خلاف. حسناً، إنّهم يمنحون الفرصة لمخرجي السينما حتى يشتغلوا. لكنْ، أعطوني اسم مخرج شابٍّ واحد اكتشفوه؟ مُهمّتنا نحن أنْ نساهم في بروز مواهب جديدة“.
إنّه الحزم الشغوف نفسه الذي دعاه إلى رفض تخصيص حصّة ثابتة لأفلام المخرجات في المسابقات الرسمية لـ”كانّ”، مهما كان مستواها الفنّي، تلبيةً لنداء منتمياتٍ إلى جمعيات نسوية: “لا يُكلّفن أنفسهنّ عناء الحضور حين نخصّص عرضاً للاحتفاء بباربارا لودين” كما قال، من دون أن يمنعه هذا عن التأكيد بأنّه يُرجّح دائماً اختيار الفيلم المنجز من امرأة، في حالة تكافؤ مستوى فيلمين مرشّحين للمسابقة.
الإنسان تحصيلٌ لاختياراته في الحياة، كما يُقال. لعلّ هذا القول يجد تجلّيه الأقصى في حياة تييري فريمو. رجلٌ نذر اختياراته كلّها لخدمة السينما وقضاياها، عبر الاحتفاء بماضيها في ليون، والاعتناء بحاضرها ومستقبلها في “كانّ“.