القاهرة ـ «سينماتوغراف»
تغطي أجواء كثيفة من الغموض فيلم «أين تغزو المرة القادمة ـ Where To Invade Next»، الذي يعرض خارج المسابقة الرسمية لـ «القاهرة السينمائي» مساء غد في المسرح الكبير بدار الأوبرا، وهو أول فيلم يقدمه مخرج الأفلام الوثائقية صاحب الأسلوب المحرض والمشوق والمحفز للعقل «مايكل مور» بعد ست سنوات. من آخر عمل له، وهنا يُطرح السؤال عن ما إذا كان هذا الفيلم يستحق المشاهدة أم لا؟، وفي السطور القادمة يقدم لنا الناقد «أوين غليبرمان» رأيه في هذا العمل.
يمكن أن نقول إننا نرى مايكل مور، بطابعه الفوضوي العجيب، وكأنه مصارع؛ دب رمادي محاط بالأعداء، يطارد بسخريته الأغنياء وأصحاب السلطة والقوة، ممن يختبئ كل منهم بعرين يتخذ شكل مكتب عصري.
ويكون مور في هذا الوقت مُسلحاً بما «يبصقه» في وجوه هؤلاء من ألاعيب لفظية دقيقة ذات طابع قاس، وإحصائيات تحمل في طياتها إدانة لهم وذم لسلوكهم، أو ربما القليل من التشويه لكل ما يوجد في الولايات المتحدة من سيئات.
لكن هذا المصارع المخضرم، الذي يخرج من فمه اللهيب والقادم من واقع تلك الحكايات التي تدور حول من هم يعشقون القتال بشكل مسرحي، يتقدم في السن؛ إذ أصبح الآن في الحادية والستين من عمره. ولذا بدأ ذلك الرجل يوطد صلة أوثق مع ما يوجد بداخله من روح شاب قريب لأولئك «الهيبيز» الذين عرفوا خلال القرن الماضي.
ويعني الاسم الذي اختاره هذا المخرج لأحدث أفلامه الوثائقية؛ «أين تغزو المرة القادمة»، بأن مور يتعرض لهجوم من خلال المحاولات التي بذلتها الولايات المتحدة الامريكية بعد هجمات 11 من سبتمبر للاضطلاع بمركز شرطي العالم.
لكن اسم الفيلم مضلل، فالفيلم ليس معزوفة متنوعة المقامات للنزعة الاحتلالية العسكرية. فالانتقالات الرئيسية على ساحة هذا العمل ليست سوى تنقلات مور نفسه، الذي «يغزو» أكثر من عشر دول في أوروبا وإسكندنافيا وشمال أفريقيا؛ بلدا بعد الآخر.
ويهدف المخرج لأن يتعرف خلال هذه «الغزوات» على أمثلة توضح الكيفية التي يتحكم بها في الأمور في تلك الدول، لكي يتمكن من «الاستحواذ» على الأفكار التي تتبع في هذا الإطار تطبيقها في الولايات المتحدة الامريكية. تتشكل رسالة مور من فكرة أن المواطنين الأمريكيين يعيشون حياتهم و كل واحد يأخذ بخناق الآخر.
وتتماسك الكثير من هذه الأفكار بالسياسات الحكومية في البلدان التي «يغزوها» مور؛ مثل العطلات مدفوعة الأجر التي يعتمدها القانون في إيطاليا، وإسباغ حق المشروعية على تناول بعض أنواع المخدرات في البرتغال. ولكن مور يعتمد في واقع الموضوع على طابع ثقافي أكثر من كونه سياسيا.
ووفق الفيلم، ترتكز السبل التي تُدار بها الأمور في تلك البلدان إلى عقد اجتماعي أساسه الإيمان بأن هدف وجودنا جنبا إلى جنب هو حماية مصالح بعضنا البعض. ويقول مايكل مور إن الولايات المتحدة تعودت في الماضي التفكير على هذه الطريقة أيضا، ولكن ذلك لم يبقى قائما حاليا، وذلك لأن ما ينعته المخرج بأيادي الشفقة والتعاطف أصبحت مُكبلة بقيود من الجشع و البيروقراطية.
وتتبلور رسالة مور في أن المواطنين الأمريكيين أضحوا الآن يخضعون لنظام اجتماعي، وضعه رؤسائهم وشكلتّه تقاليدهم وساعد فيه ربما شيء ما باق في أعماق قلوبهم، يجعلهم يعيشون حياتهم حيث أن كل منهم يأخذ بخناق الآخر تقريبا.
ويمثل موضوع الفيلم وأفكاره كذلك، موضوع وبنية فيلم وثائقي عرض سنة 2007 عن موضوع الرعاية الصحية في الولايات المتحدة، و سمي بــ «سايكو»، و هو العمل الذي يمكن اعتباره بأنه الأروع في سلسلة مور.
ففي إطار أحداث «سيكو»؛ وبينما كان مخرجه يمشي في البلدان التي تملك فيها رعاية صحية تقدمها الدولة، كان بوسع المتفرج أن يجادل أو يغالط في بعض الأحيان بشأن تفاصيل ما يظهره مور، لكن الموضوع الأساسي للفيلم ظل يدور حول الأهداف الكامنة وراء تلك السياسات؛ التي هي السعي لتوفير خدمات الرعاية الصحية للكل المجتمع.
ويميط مور اللثام عن الروح ذاتها في «أين تغزو المرة القادمة»، فقد بدأ رحلته من إيطاليا، تلك الأرض التي لا يكون أهلها في عجلة من أمرهم وهم يجلسون على مائدة الطعام وقت الغداء، والتي يشكل منح العاملين فيها – مثلهم مثل نظرائهم في غالبية دول العالم – عطلات مدفوعة الأجر سياسة عامة وشاملة.
كما أن الإيطاليين الذين يُظهرهم لنا في فيلمه، يبدون مستمتعين بإيقاع حياتهم. أما في فرنسا، فيلقي مور الضوء على نظام التغذية المطبق في مدرسة تقع بمنطقة متواضعة الحال على مشارف مدينة نورماندي.
ويعتبر المخرج هذا النظام تجسيدا لما يصفه بالقيم المستنيرة، إذ لا تتضمن وجبة الغداء المقدمة في إطاره ذلك «اللحم الغامض» المُعدْ على الطريقة الأمريكية، على حد تعبير مور، بل تحتوي على قطعة «واضحة وصريحة» من لحم الضأن ومعها الكسكس والجبن.
فضلا عن أن التلاميذ يحصلون على ساعة كاملة لالتهام هذه الأصناف ومشاركة بعضهم البعض فيها.
بعد ذلك يتوجه مور إلى فنلندا، التي باتت إحدى الدول ذات المستويات الرفيعة على مستوى العالم في مجال التعليم، وهو ما يُعزى بشكل كبير إلى كون نظامها التعليمي يتحاشى الاختبارات التقليدية الموحدة التي لا تراعي الاختلاف بين طالب وآخر، وأن الواجبات المنزلية – التي يُلزم بها التلاميذ في إطاره – محدودة للغاية.
فالتعليم في هذا البلد ليس مؤلما أو شاقا، بل يمكن وصفه بأنه أشبه بالأطعمة العضوية ذات المكونات الطبيعية المحضة والطابع الصحي، والتي تخلو من أي مُدخلات صناعية. كما أن النظام التعليمي في فنلندا يعطي الطلاب مساحة لالتقاط الأنفاس، وهذا هو السبب الذي يجعل هذا البلد يبلي بلاءً حسنا في ذلك المضمار.
ويُبقي مور على الطابع الكوميدي لعمله متدفقاً من خلال تعليقاته الجانبية وردود فعله المتأخرة قليلا على الملحوظات والمواقف غير المعتادة التي يمر بها. فعلى سبيل المثال، يبدي مور – على نحو ساخر- صعوبة بالغة في تصديق أن لا أحد من مواطني سلوفينيا مثقلٌ بالديون الناجمة عن الحصول على قروض لدخول الجامعة (في ضوء كون التعليم الجامعي في هذا البلد مجانيا بالكامل).
أما عندما كان يجول في سجن شديد الحراسة في النرويج، بدا وكأنه مجمع سكني مخصص لأبناء الطبقة المتوسطة، فقد ضحك حتى كاد يَشْرَقْ.
وفي بعض الأوقات، يُجازف الفيلم بأن يكون على شفا تقديم أوروبا باعتبارها سلاسل من «المدن الفاضلة»، وكأنما لسان حال مور يقول: «أنظر. الكل هناك (في أوروبا) يعيش حياة سعيدة مشرقة».
ولكن المخرج الشهير لا يفعل ذلك في واقع الأمر، بل إنه يطرح سؤالا عميقا بشأن الولايات المتحدة، يتعلق بما إذا كان مجتمعها قد كف عن أن يقوم بدوره كمجتمع بالفعل، نظرا لوجود هوة واسعة النطاق للغاية بين مواطنيه وبعضهم البعض. وهي نفس الهوة التي تفصل في الوقت ذاته بين نخبته الحاكمة (سواء مؤسسات سياسية أو اقتصادية) وبين باقي المواطنين.
لكن هناك جزءا من هذا العمل غير مقنع على نحو صارخ، وهو ذاك الذي يُطري فيه مور ألمانيا لكونها تعاملت بشكل صادق – في رأيه – حيال التصالح مع ماضيها النازي والإقرار به، وذلك على نحو يرى المخرج الأمريكي أن الولايات المتحدة فشلت في أن تحذو حذوه فيما يخص شياطين العنصرية الكامنة في بعض أرجائها.
رغم ذلك، ففي غالبية فترات هذا الفيلم الوثائقي تؤدي غالبية اللكمات التي يوجهها مور لمشاهديه إلى توسيع مداركهم.
وفي نهاية العمل، يحدد الرجل القضية المعبرة عن حقيقة الموقف ككل، بوصفها تلك المتعلقة بغلبة الطابع النسوي على الساحة السياسية في أوروبا، إذ تتقلد السيدات هناك مناصب في سدة السلطة، ويضفين قدرا من مشاعر التعاطف مع الغير على السياسات المتبعة والمؤسسات القائمة في القارة.
في النهاية يمكن القول إن مايكل مور ظل على الدوام مخرجا سينمائيا شبيها بأحد مقاتلي حرب العصابات، ولكن في فيلمه «أين تغزو المرة القادمة»، تمضي أساليبه التي تسعى لإثارة الذهن وتحفيزه واستفزازه إلى ما هو أعمق من مجرد التعامل مع ذاك السطح الظاهري المتمثل في الجانب السياسي للأمور، إذ أنه أقدم في هذا الفيلم على ما يبدو وأنه عمل من أعمال حرب العصابات الذي يصطبغ بطابع إنساني في الوقت نفسه.