«سينماتوغراف» ـ محمد زرزور
قد يستغرب البعض اعتماد مخرج على اللونين الأبيض والأسود لصناعة فيلمه في القرن الحادي والعشرين، ولكن الاستغراب الأكبر قد يكون بترشيح الفيلم للأوسكار، وهذه المعادلة حققها فيلم (BELFAST ـ بلفاست)، سيناريو وإخراج السير البريطاني كينيث براناه، والذي حقق 7 ترشيحات للعام 2022 كثالث فيلم من حيث عدد الترشيحات بالتساوي مع فيلم (West Side Story ـ قصة الحي الغربي) لستيفن سبيلبيرغ.
الفيلم يستعرض أحداث العنف التي شهدتها مدينة بلفاست الإيرلندية الشمالية منتصف أغسطس1969، للمطالبة بطرد العائلات الكاثوليكية التي تعيش ضمن أحياء البروتستانت، منبأة باندلاع صراع سياسي وطائفي في البلاد، رافقه انتشار الجيش البريطاني للفصل بين المقاطعات الكاثوليكية عن تلك البروتستانتية.
وقد أرانا براناه هذه الأحداث من خلال عائلة الطفل بودي (جودي هيل)، والذي لم يتجاوز العقد الأول من عمره، في مرحلة مشابهة لعمر كينيث براناه آنذاك، ما يجعل الفيلم أقرب لأفلام السيرة الذاتية.
ولطالما كان استخدام الأبيض والأسود أسلوباً ينتهجه العديد من المخرجين في مشاهد العودة للماضي، اختار براناه هذين اللونين لفيلمه كونه يمثل مرحلة من ماضي عاشه، واقتصر الظهور الملون فقط في 207 ثوان، بالإضافة إلى 50 ثانية سبقت الدخول إلى حكاية الفيلم لشعارات الشركات المنتجة له.
وقد شهدنا الألوان في المشهد الافتتاحي الذي قُدم في 25 لقطة، استغرقت 127 ثانية للقطات متنوعة تظهر الفجر في سماء إيرلندا الشمالية، ترافقها موسيقى فان موريسون DOWN TO JOY . وقد بدأت الصور باستعراض الرافعتين الضخمتين Samson و Goliath اللتين تهيمنان على حوض بناء السفن والمدينة، فيما تحيط مياه البحيرة بالميناء،لتتكشف المدينة في صورة تلو الأخرى للنهر والطريق والجبل والنصب التذكاري، ومجلس المدينة وميدان الكلية ودار القضاء والقلعة.
نعود ونرى الألوان مرة أخرى في آخر 22 ثانية، حيث يحل الغروب في المدينة بلقطة تظهر الرافعتين العملاقتين مجدداً، قبل أن تظهر أسماء الفنانين والفنيين وكل المشاركين لمدة 4 دقائق و 40 ثانية.
فيما تخللت المشاهد الملونة الفيلم في ثلاث مناسبات أخرى، من خلال عروض الأفلام والمسرحيات التي شاهدها بودي برفقة عائلته، فشاركنا المخرج مشاهد استمرت لـ 14 ثانية متقطعة من فيلم المغامرة البريطاني One Million Year B.C إخراج دون شافي عام 1966، وكذلك مشاهد أخرى لــ 22 ثانية متقطعة من فيلم الفانتازيا Chitty Chitty Bang Bang إخراج كين هيوز عام 1968. وبينهما رافقنا بودي وجدته حضور مسرحية تشارلز ديكنز الشهيرة A Christmas Carol التي كانت تعرض يومياً على مسرح غروف، لنعود ونرى الألوان مرة أخرى لفترة 22 ثانية أخرى.
ولكي لا يشعر المشاهد بغياب الألوان عن الصورة، عمد كينيث براناه مع مدير تصويره القبرصي اليوناني هاريس زامبرلوكاس على خلق صور، كانت تتنافس فيما بينها لتقول ” أنا الأجمل”.
كان الاختيار الأمثل هو فرض الإيقاع البطيء في القطع ما بين اللقطات والمشاهد، لجعل التكوين البصري للصورة جزءاً فعالاً من عناصر النجاح، فتعددت مواضع الكاميرا وحركاتها انسجاماً مع القصة دون أن يستعرض المصور السينمائي مهاراته الفنية على حساب النص.
وتميزت الوجوه بالنصوع، من خلال تكوينات الصورة بالتناغم ما بين مقدمة الكادر وخلفيته، وكانت الشخصيات تتحرك بينهما مظهرة عنصراً هاماً من عناصر الميزانسين للفيلم السينمائي وهو عمق المجال.
ولعل العنصر الأكثر استخداماً من عناصر الميزانسين التي ظهرت في الفيلم هو ميزة الـتأطير (صورة داخل صورة)، فقد شاهدنا أكثر من 70 مرة خلال الفيلم بمدة تجاوزت الــ 9 دقائق، طوَعها براناه 11 مرة لنقل تطورات الأحداث السياسية من خلال شاشة التلفاز، الذي عرض من خلاله أيضاً مشاهد من فيلمي The Man Who shot LIBERTY VALANCE إخراج جون فورد عام 1962 وHigh Noon إخراج فريد زينمان 1952.
ولكن ما يعيب استخدامه للقطات الأفلام، هو عدم توافق المدة التي اختارها من الأفلام المعروضة مع زمن عرضها داخل فيلمه، فاختار لقطتين من فيلم جون فورد يفصل بينهما لقطة لاتتعدى الــ 4 ثوان لبودي وشقيقه يتابعان الفيلم، بينما الزمن الفعلي الفاصل بين لقطتي فورد يتجاوز الــ 25 ثانية، وهذا نفسه ما حدث عند اختياره 4 لقطات متباعدة زمنياً من فيلم زينمان، لعرضها ضمن مشهد واحد من فيلمه لا يتعدى الــ 49 ثانية، وقد يكون الدافع لذلك هو اختياره للحوارات التي تحدثت بها شخصيات الأفلام التي مررها ضمن فيلمه، بغض النظر عن أي شيء آخر.
اللقطات الطويلة سواء المتحركة منها أو الثابتة استخدمها كينيث براناه كثيراً خلال فيلمه، فظهرت لقطات التتبع التي تجاوزت الــ17 ثانية 7 مرات في الفيلم، منها اثنتين تجاوزتا الدقيقة إحداهما سجلت بداية الأحداث في الحي، والثانية رافقت بودي من الشارع إلى بيته لتعقب المشاجرة بين والديه بسبب تورط أبيه بديون جديدة لصالح البنك.
اللقطات الطويلة الثابتة كانت أيضاً حاضرة في الفيلم 16 مرة، بما مجموعه 9 دقائق و39 ثانية من زمن الفيلم، تجاوزت في إحداها حاجز الدقيقتين حيث يظهر بودي وشقيقه نائمان في مقدمة الكادر خارج نطاق التركيز البؤري للعدسة الموجه نحو الوالدين، الذين يقفان في الخلفية حيث يشكر الأب زوجته على كل ما قدمته لتربية طفليهما أحسن تربية، في ظل ظروف الاضطرابات التي يعيشونها بعد أن رفض بودي مغادرة بلفاست.
وبالفعل كانت مغادرة بلفاست هي النهاية الحتمية لهذه العائلة، فيضطر بودي لوداع صديقته، وهنا يستغل المخرج الفرصة لإيصال رسالته الختامية، عندما يسأل بودي عن مستقبل علاقته مع تلك الفتاة لأنها كاثوليكية، فيجيبه الأب أنه مهما كان دينها فهي مرحب بها لطالما أنها لطيفة وعادلة و تبادله الاحترام.
الفيلم قدم خارج نطاق السيرة الذاتية والأحداث، العديد من الدروس العملية في تكوين الصورة السينمائية، فاتحد الشكل العام للصورة مع المشاعر والأحاسيس لإيصال رسالة استطاعت الظفر بسبع ترشيحات أوسكارية عن فئات، أفضل فيلم، وأفضل سيناريو أصلي، وإخراج، وصوت، وموسيقى تصويرية، بالإضافة إلى أفضل ممثل وممثلة كدور داعم، للجد والجدة كيران هايندز وجودي دينش الحائزة على الأوسكار سابقاً عام 1999 عن فيلم Shakespeare in Love إخراج جون مادن.