القاهرة ـ «سينماتوغراف»
ضمن المسابقة الرسمية للدورة الـ 43 لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، عُرض الفيلم الروائي الأردني “بنات عبدالرحمن”، للمرة الأولى عالمياً، وجاء كأحد عروض السجادة الحمراء في مهرجان القاهرة.
تدور أحداث الفيلم، وهو من بطولة صبا مبارك وحنان الحلو وفرح بسيسو ومريم الباشا وخالد الطريفي والطفلة ياسمينة العبد، في حي للطبقة المتوسطة في عمّان، حيث تعيش زينب العزباء، التي تعمل خياطة وتعول والدها وسط حياة كئيبة. وبعدما يراها الأب في ثوب زفاف كانت تقوم بتعديله لإحدى قريباتها، تستيقظ زينب لتجد والدها مفقوداً فتبدأ رحلة البحث عنه بمساعدة شقيقاتها.
تتناول قصة العمل علاقة أسرية مضطربة بين أربع شقيقات لا تجمعهن تقريباً إلا صلة الدم، بحيث تختلف كل واحدة عن الأخرى في طباعها وتفاصيل حياتها، فيما يتزامن اختفاء والدهن مع تفجر مشكلاتهن الخاصة.
تعيش كل واحدة من بنات عبدالرحمن حياة مختلفة تماماً عن الأخرى، الكبرى هي زينب التي كانت تحلم بدخول معهد الموسيقى، لكنها دفنت موهبتها خلف أكوام الملابس التي تخيطها بعدما تحوّلت إلى خيّاطة الحي لضعف عائد مكتبة أبيها الذي تكفّلت برعايته لعدم زواجها.
أما الثانية فهي آمال التي تزوّجت في سن صغيرة وانتقبت وأنجبت عدداً من الأطفال، لكنها تعيش مقهورة مع زوج يعنفها بشكل دائم ويريد تزويج ابنتهما الصغرى وهي في سن الخامسة عشرة.
والثالثة هي سماح التي استطاعت الزواج من رجل ثري حقّق لها المستوى المعيشي المناسب، لكنها لم تنجب منه لسنوات، وهي ظلت تشككّ فيه إلى أن اكتشف في نهاية الأمر أنه مثلي الجنس.
أما الرابعة فهي ختام التي تسبّبت في حسرة كبيرة لأبيها بعدما سافرت إلى دبي للعيش مع صديقها من دون زواج، وهو الأمر الذي جعل الأسرة كلها تعيش منكسة الرأس في الحي ودفع شقيق الأب إلى مقاطعته.
ومع التقاء البنات الأربع في بيت الأب للمرة الأولى منذ سنوات، يكتشفن أنه خرج ولم يعد لتبدأ رحلة بحث طويلة عنه تحمل الكثير من الشجار والمفارقات، وتكون في الوقت نفسه فرصة لكل منهنّ بغية إعادة النظر في حياتها واتخاذ قرارات جريئة لتعديل مسارها.
استوحى المخرج الفيلم من حكايات نساء قريبات منه منذ كان صغيراً، فهي ليست قصص حقيقية مئة في المئة لكنها مستوحاة من وقائع رآها وعاشها منذ صغره مع نساء في حياته، لذا خرجت الكتابة صادقة ذات رؤية عميقة، متطرقاً من خلالها لعادات وتقاليد المجتمع في تربية الفتيات، ومسلطاً الضوء أيضاً على قضايا شائكة مثل العنف الأسري والزواج القسري للفتيات في سن صغيرة والتمييز بين الجنسين والتدين الشكلي، و”شيزوفيرنيا” مجتمعاتنا العربية.
تتميّز شخصيات الفيلم بأنّها ثرية في تفاصيلها وصراعاتها الداخلية، وينبغي الإشادة هنا بمؤلف الفيلم ومخرجه زيد أبو حمدان، فهو رجل يكتب عن أربع فتيات، وبغض النظر عن انحيازه للثقافة النسوية من عدمها، لكنه وصل إلى درجة الإجادة في التعبير عن المكنونات والمشاعر الداخلية المتقلبة لبطلاته، فيشعرك المخرج أنه قرأ ودرس علم النفس وبلغ أعلى درجة في التعبير عن ذوات هؤلاء النساء بدقة. فقدم شخصية المرأة العربية ومعاناتها وصراعاتها الداخلية والخارجية، كاشفاً عورات المجتمع العربي. وداعياً في الوقت عينه الى الثورة على الموروثات الاجتماعية والعقائدية.
يضم الفيلم أربع بطلات هن صبا مبارك، وحنان الحلو، وفرح بسيسو، ومريم الباشا. ورغم أن صبا مبارك هي الأسم الأبرز عربياً، لكنّ المخرج منح مساحة متساوية ومتكافئة للرباعي، فخرجت بطولة جماعية كأنها مبارزة فنية بين أربع ممثلات موهوبات، وكان الأداء متميزاً في مباراة تمثيلية ممتعة لا تملك أمامها إلا الإعجاب أمام حضورهن المتفوق، فكأنهن يعزفن سيمفونية متناغمة سوياً.
بطلات الفيلم يشبهن نساء المنطقة العربية بل هن من صلب نساء المنطقة بأزماتهن ومشاكلهن وصراعاتهن وحتى مشكلاتهن البينية (في ما بينهن) والتي تظهر من خلال مشاحناتهن في النصف الأول من الفيلم لتنتهي بتقاربهن.
ونكتشف أن رحلة البحث عن الأب المسن التائه هي رحلة للبحث عن ذواتهن في الأساس قبل أن يجدوه في النهاية ويجدوا أنفسهن معه.
ويذكرنا “بنات عبدالرحمن” بفيلم صبا مبارك “بنتين من مصر” الذي تطرق إلى نظرة المجتمع العربي تجاه الفتيات والضغوط التي يمارسها نحوهن.
لم يتطرق فقط لقضايا المرأة بل ربطها بعدد من القضايا في مجتمعنا العربي بشكل واضح ومباشر منها إشكالية الخطاب الأصولي والتدين الشكلي، كما يطرح بقوة إشكالية الثقافة الذكورية السائدة في الوطن العربي والسلطة الأبوية للمجتمع على الأفراد، خصوصاً النساء منه.
شخصية “آمال” المنقّبة ضمن الفيلم لم تكن شخصية سيئة لكنها مكبوتة مضطرة للظهور على غير حقيقتها خشية المجتمع حتى وصلت إلى مرحلة لم تعد قادرة على التعبير عن ذاتها الحقيقة، لذا فهي مضطرة للإدعاء على الدوام، والظهور بغير حقيقتها الساخطة على هذه الأوضاع خشية رد فعل زوجها المتسلط تارة أو خشية المجتمع الذكوري تارة أخرى، فهي تمرر الكثير من المرارات في حياتها من أجل أبنائها، التي تتمنى لهم مستقبلاً أفضل من مصيرها القاتم.
“آمال” لا ترتدي النقاب فقط على وجهها لكنها ترتدي معه أيضاً قناعاً يخفي شخصيتها الحقيقية المتمردة الساخطة الرافضة لكل هذه القيود المجتمعية، لينتهي بها الوضع وقد تحولت جذرياً فتستجمع شجاعتها وتثور على أوضاعها، وكذلك تفعل شقيقاتها.