تورنتو 2022 | «نائحات إينشرين».. كيف نتقبل نهاية صداقة دون أن نشعر بالخذلان والألم؟

«سينماتوغراف» ـ نسرين سيد أحمد

تُرى كيف يتبدل الحال وتموت صداقة العمر؟ كيف يتحول الصديق الصدوق إلى شخص نتحاشى لقاءه؟ بل كيف يتحول في نهاية المطاف إلى عدو؟ كيف يبرر المرء لنفسه إخفاقاته في الحياة؟ هذه هي بعض التساؤلات التي تدور في الأذهان حين نشاهد «نائحات إنيشيرن ـ The Banshees of Inisherin » للمخرج الأيرلندي مارتن ماكدونا، الذي فاز بجائزة أفضل سيناريو في مهرجان فينيسيا السينمائي في دورته التاسعة والسبعين، وعرض بالأمس في تورنتو السينمائي الـ47.

منذ أعوام اعتادت جزيرة إنيشيرن الصغيرة النائية، الواقعة قبالة سواحل أيرلندا على أن الأربعيني الطيب بادريك (كولين فاريل في أداء مميز حاز جائزة أفضل ممثل في مهرجان فينيسيا) هو الصديق الصدوق لكولم (برندن غليسن) الذي يكبره بعدة أعوام. الاثنان لا ينفصلان، لا يُرى أحدهما دون الآخر، لا ينقضي صباح أو مساء دون لقائهما في الحانة الصغيرة في جزيرتهم البعيدة. لكن على حين غرة، ودون سابق خلاف، يقرر كولم إنه لا يريد أن يكون صديقا لبادريك، بل لا يريد التحدث إليه قط. ليس الأمر رغبة عابرة في الاختلاء بالذات عدة أيام، بل هو قرار لا رجعة فيه.

نتساءل ما الذي حدث حتى تنتهي صداقة أعوام بتلك القسوة الباترة؟ أتراها كانت حقا صداقة؟ أم تراها كانت مجرد معرفة بين اثنين جمع بينهما مكان واحد، وخالها الناس صداقة؟

بادريك، الأصغر سنا، طيب حلو المعشر، يرضيه من الحياة القليل. غاية مراده هو كأس شراب مع صديقه في الحانة، وطعام تعده شقيقته شوبون، وبعض الثرثرة الودودة. أما كولم فباغته فجأة ذلك الشعور أن العمر يمرّ وينقضي وهو لم ينجز شيئا يبقى ويخلد. هو رجل يحب الموسيقى والعزف على الكمان، وتولدت لديه تلك الرغبة الملحة في تأليف مقطوعات موسيقية تخلد في الذاكرة بعد وفاته.

هكذا فجأة ودون مقدمات، تستيقظ الجزيرة الوادعة ذات صباح عام 1923 على قرار كولم إنه لا يريد أن يكون صديقا لبادريك، بل لا يريد أن يتحدث إليه قط، بل إنه يعلنها أمام بادريك وأهل الجزيرة أنه سيبتر إصبعا من أصابع يده، كلما حاول بادريك التحدث إليه، ويبرر ذلك قائلا إنه لم يعد يحب بادريك، هكذا ببساطة.

لكننا نرى أنه ربما ليس الأمر بتلك البساطة، أترى كولم يشعر بالإخفاق وعدم التحقق والإنجاز ويسقط هذا الشعور على بادريك؟ هل تكون التضحية بصداقة بادريك، الذي يتهمه بإهدار الوقت والعمر، مجرد كبش فداء لشعور كولم بالنقص الداخلي؟ نرى بادريك راضيا بحاله، لا يرغب في الحياة أكثر مما لديه في تلك الجزيرة البعيدة. أما كولم فلديه تطلعات وآمال بالخلود، يستمع إلى موتسارت ويحلم بأن يحقق خلوده، ولكن هل يعتقد كولم في أعماقه أنه لا يمكن لهذه الموهبة الداخلية أن تمكنه من التحقق فيعلق خيباته على بادريك؟

«نائحات إنشيرين» فيلم يحمل من الشجن الكثير، ويتسلل إلى أعماقنا في هدوء. نحب تلك الجزيرة الصغيرة ببحرها الفسيح وخضرتها وبيوتها الصغيرة العتيقة، ونميمتها، وثرثراتها الصغيرة، ولا يطرأ في بالنا قط أن تكون تتحول فيها صداقة إلى عداء، وأن يتحول فيها الحب إلى إحساس بالظلم والجرح والعداء. لكن هذا ما يحققه ماكدونا بذكاء وحساسية كبيرين، وبسيناريو يحمل فهما كبيرا للنفس البشرية وإخفاقاتها وألمها وطموحها، ويحمل فهما عميقا للمكان، لهذه البقعة النائية على سواحل أيرلندا.

بعد عدة أعوام من فيلم «ثلاث لوحات خارج إبينغ، ميزوري» الذي فاز بجائزة السيناريو في مهرجان فينيسيا عام 2017، يعود ماكدونا بفيلم يضاهي، بل يفوق، براعة سيناريو فيلمه السابق.

«نائحات إنشيرين» فيلم يبدأ وادعا هادئا وتتصاعد وتيرة العداوة والضغينة فيه لتصل إلى درجات ما كنا لنتخيلها. في خلفية الأحداث في الفيلم أنباء عن الحرب الأهلية في أيرلندا، أنباء تصل الجزيرة النائية، فهل هذه العداوة بين الصديقين السابقين نذير بتلك الحرب؟ ربما يود الفيلم أن يخبرنا أن الصداقة ليست بالأمر اليسير، وأن إنهاءها لا يتولد عنه إلا الكثير من الألم النفسي والجسدي.

قرار كولم الذي تقطر منه الدماء، حيث نفذ وعيده ببتر أصابعه إذا تحدث إليه بادريك مجددا، يكون الشرارة التي تبدد هدوء الجزيرة وسكينتها. الجميع يعلمون أن بادريك طيب ودود حسن المعشر، ولكنه لا يتمتع بذكاء كبير.

هو يقنع بحب حماره الصغير، وبما كان يخاله صداقته مع كولم. لا نراه يقرأ كتابا أو يطمح في جديد. نرى كولم في منزله محاطا بكتبه ونوتته الموسيقية وكمانه، وربما كان هذا العداء المفاجئ من كولم تجاه بادريك يعود إلى إحباط كولم من مجتمع جزيرته، الذي يراه مصغرا في شخصية صديقه، فهم بالنسبة له أناس ضئيلون مثرثرون، لا يفكرون إلا في الشراب والنميمة، بينما هو يريد أن يحقق خلودا فكريا ومعرفيا، لا نعرف إن كان يملك مقوماته.

ربما لا يتفهم رغبة كولم في الابتعاد وفي تحقيق الذات أكثر من شقيقة بادريك، شوبون (كيري كوندون). هي امرأة ذكية، تفرغ من قراءة كتاب، لتبدأ في قراءة غيره. هي تحنو على شقيقها بعد وفاة والديها، وتقوم بإعداد الطعام تنظيف المنزل، ولكنها في قرارة نفسها تحلم بما هو أرحب وأعمق. تعقد شوبون العزم ألا تمضي بقية أيامها وأعوامها وسط ضآلة الجزيرة الصغيرة. تحب شقيقها وتحنو عليه، ولكنها لا تترد لحظة واحدة للوصول إلى عالم أرحب وأكثر ثقافة وفكرا، حين تلوح لها فرصة لذلك. جزيرة إنشيرين جزيرة بديعة الجمال، ببحرها الذي يمني بسواحل بعيدة، ولكنها جزيرة لا تحمل الكثير لمن يحلم بالأفضل.

ربما ما كان للفيلم أن يكون بهذا العمق والإنسانية دون سيناريو ماكدونا في المقام الأول، ودون أداء كولين فاريل المرهف لشخصية بادريك. بين ليلة وضحاها يفقد بادريك صديقه الصدوق. تتابع على وجه فاريل الكثير من التعبيرات والمشاعر الملتبسة، بين عدم الفهم وعدم التصديق، بين الحيرة والعجز والغضب، بين الرغبة في البكاء تارة، والرغبة في إيجاد أي ذريعة للحديث إلى صديقه تارة. قد يكون بادريك الشخص الطيب البسيط الذي لا يلوي على شيء، لكن أداء فاريل يضفي على الشخصية بعدا تراجيديا وإنسانيا كبيرا.

كعادة الأفلام الجيدة لا يقدم ماكدونا في فيلمه حلولاً جاهزة، بل يفتح لنا الباب للتساؤل: ترى ما هو المخرج من مأزق الإحساس بعدم التحقق؟ كيف يمكن للمرء أن يحلق بعيداً عما يحده عن تحقيق آماله وأحلامه، دون أن يتسبب في الجرح والألم لمن يحبهم؟ يجعلنا الفيلم أيضا نتساءل عن ماهية الصداقة: هل الكثير من الصداقات التي نراها ونخبرها في حياتنا صداقات حقيقة، أم مجرد لقاءات عابرة نظنها صداقة؟ ترى كيف يرى الأصدقاء بعضهم بعضا؟ هل يضمرون المحبة والاحترام لبعضهم؟ أم هل يظهرون خلاف ما يضمرون؟ ويجعلنا الفيلم نتساءل كيف يمكن أن نتقبل نهاية الصداقة دون أن نشعر بالإهانة والخذلان والألم؟

Exit mobile version