كان ـ «سينماتوغراف» : عبد الستار ناجي
يعتبر البلجيكيان الأخوين جان بيار ولوك درادان من أهم صناع السينما في بلجيكا وأوروبا، لما تمتاز أعمالهما من خصوصية عالية وتحليل للمجتمع الأوروبي والعلاقات الاجتماعية خصوصاً العلاقة مع المهاجرين، حيث ظل هذا الموضوع هو المحور الأساسي الذى أشتغل عليه هذا الثنائي بعمق أكبر وثراء فني وبساطة في استخدام السينما لإيصال تلك القضايا الكبري.
بدايتهما كانت مع فيلم «فلاش» 1987، وتوالت الأعمال حتى جاء فيلم «روزيتا» 1999 الذي نالا عنه جائزة السعفة الذهبية، وتمضي المسيرة ليأتى فيلم «الأبن» ثم «الطفل» ويتوالى حصاد سعفة ثانية، وصولاً إلى فيلمها الجديد «توري ولوكيتا» الذى عرض في المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي الـ75، وكالعادة نفس الموضوع، ونفس القضية ولكن بسحر سينمائي أعمق وصدمته أكبر في التغيير، سينما الأخوين دردان من نوع مختلف، سينما بلا فذلكة، كل ما هناك موضوع يتم إثراءه بالتكثيف عبر الأحداث والأداء البسيط، لأن الجميع في خدمة الموضوع والقضية.
تجري أحداث الفيلم في بلجيكا اليوم، حيث حكاية الصبي الأفريقي توري وشقيقته الصبية لوكيتا، وتضطرهما ظروهما من أجل تأمين إرسال المال إلى والدتهم في بلادهم للعمل في الخدمة تاره وأيضاً في توزيع المخدرات لطباخ يحول مطبخ أحد المطاعم التى يعمل بها إلى محطة لتوزيع المخدرات، تعاني الصبية لوكيتا من حجز أوراقها ورفض الشرطة إعطاءها الأوراق الرسمية للإقامة، وترضخ لطلبات الطباخ تاره من أجل الحصول على المال وأخري لكي تظل إلى جوار شقيقها الذى يدرس، وطلبات ذلك الطباخ تذهب بعيداً ودائماً بحجة إستعاده أوراقها الرسمية، وهو يكرر دائماً (إذا كنت تريدين الأوراق .. أفعلي .. وأفعلي ..)، في إبتزاز جسدي لصبية فقيرة معدمة قادمة من أفريقيا حتى يتم إرسالها إلى أحد المزارع النائية لزراعة الحشيش وأنواع أخري من المخدرات..
أخوة وصداقة حميمية تربط توري مع لوكيتا، لذا يظل يبحث عنها ـ وفي الحين ذاته يواصل عملية إيصال المخدرات إلى الزبائن، من أجل تحويل المال لوالدتهم لتأمين احتياجات مدراس أخوتهم وأدوية أمهم ـ حتى يصل إليها ويعثر عليها، وحينما يقررا الهرب، تأتى رصاصة أحد الشركاء في المزرعة والذى لا يريد أن ينكشف أمره ليتم إغتيال لوكيت..
وفي المشهد الأخير يقول توري كلمته أثناء الجنازة .. الأوراق الرسمية هي التى اغتالت لوكيتا، لأنها ظلت تنظر الحلم والخلاص ليأتى الموت، وسأظل وحيداً في الغربة .. وكأن الفيلم يفتح النهاية على كارثة أخري سيذهب إليها هذا الصبي.
السينما هي الصدمة، والنقد الاجتماعي والسياسي والإقتصادي لمعاناه وألم وغربة وعذابات المغتربين من كافة الجنسيات، والذين لايتم تصويرهم أبرياء أو ملائكة بل متورطين في الجرائم مهما صغرت من أجل البقاء والعيش والحصول على الأوراق الرسمية، ولكن تلك الأوراق تكون طريقهم إلى الموت تحت نظر القانون.
أداء بسيط وثري ذلك الذى يقدمة لنا الثنائي جولي ماباندو بدور (لوكيتا) وبلبلو سيشلز بدور (توري)، مع الأخوين دردان، ومدير التصوير بانوا دريفو الذى كان الشريك الدائم لجمله أعمالهما ونتاجاتهما الإبداعية الرائعة، التى ظلت تتمحور حول الإنسان المغترب والتنازلات الكبري التى يقدمها من أجل البقاء في أوروبا. وهي كذلك سينما الصراخ الرافض لممارسات التى يتعرض لها الكثير من المهاجرين، بل إن الفيلم يذهب بعيداً حينما يوجه النقد العنيف للكنيسة الراعية للفتاة لوكيتا، حينما يتم إجبارها على التبرع رغم احتياجها إلى المال لإرسالة لأسرتها ووالدتها المريضة، وفي مشهد مقزز حيث يتم البحث عن المال في ملابسها وأماكنها الحساسة وهي أمام دهشة لا توصف.
الأخوين دردان ليسا مجرد أسماء بل قامات سينمائية كبري تأخذنا إلى حيث عوالمها وعذابات شخصياتها، وهى تظل تعزف على إيقاع الغربة والهجرة والألم والتعسف الأوروبي لمن هم في أمس الحاجة للدعم والرعاية والأخذ باليد والحماية، تحفة جديدة إضافية تضاف إلى رصيد السينما العالمية والأوروبية والبلجيكية من توقيع الأخوين جان بيار ولوك درادان.. فهل تكون تلك التحفة طريقهما إلى سعفة إضافية .. تكريماً للإنسان والمهاجرين في أعمال هذا الثنائي؟.