«سينماتوغراف» ـ محمد صبحي
قبل بضع سنوات قدّمت السينمائية جوليا دوكورناو نفسها بباكورتها “نيّء” كصانعة أفلام برؤية فريدة وصوت مغاير تستذكر بواكير أفلام ديفيد كروننبرغ. هذا الأخير كان الاسم الأكثر حضوراً في أحاديث وكتابات كلّ مَن شاهد فيلمها الأخير “تيتان“(*) في مهرجان “كان” هذا العام، حيث فاز بجائزة السعفة الذهبية. مثلما حضرت توصيات وترشيحات مشاهدة الفيلم مصحوبة بنعته بالـ”غريب” والـ”مروّع”، كتحفيز وتحذير في الوقت ذاته مما ستكون على وشك مشاهدته.
جاءت فكرة الفيلم من حلم راود دوكورناو كثيراً لسنوات، كانت ترى فيه نفسها حامل، لكنها لم تلد طفلاً، بل أجزاء من سيارة.
حقيقة الأمر، اللافت بخصوص هذا الفيلم هو أنه لا يمكنك في الواقع سرد قصته، عليك مشاهدته على الشاشة الكبيرة للسينما، لأنه يتواصل عبر الصور، ولأن الكلمات تعطي انطباعاً خاطئاً. إذا قمت بارتياد طريق الكلمات لوصفه وشرحه، فالأمر يتعلق بقاتلة متسلسلة تشعر بالأسف تجاهها؛ عن طفلة غاضبة تكبر لتصبح امرأة تمارس الجنس مع السيارات وتتوقع طفلاً من إحدى تلك الآلات في وقت ما. والآن على أبعد تقدير، يدرك كل قارئ أن عليه رؤيته لفهم ما يمكن أن يكون رائعاً بشأنه ويجعله جديراً بالفوز بالجائزة الكبرى لأهمّ مهرجان سينمائي في العالم.
من يسلّم نفسه للفيلم، يرافق أولاً فتاة تدعى أليكسيا، تتسبب في حادث سيارة خطير عندما كانت في التاسعة من عمرها. منذ ذلك الحين، تعيش مع صفيحة معدنية في رأسها وندبة قبيحة المنظر أعلى أذنها اليمنى. كشابّة بالغة، تعتبر دخيلة، “أوتسايدر”، سمكة في غير مائها. في حياتها، تكسب أليكسيا لقمة عيشها من عروض السيارات، برائحة زيوتها، وعرقها وعضلاتها، بنسائها المتعرّيات ورجالها الفحول. تقاوم الرجال وتقتل مَن يقترب منها، ويثيرها المعدن؛ كل شيء هنا عبارة عن أشياء تحولتّ أصناماً ومواضيع فيتيشية. ثم ذات يوم مارست أليكسيا الجنس مع سيارة كاديلاك. يمكنك أن تأخذ هذا حرفياً وتصدّقه فحسب، كما يمكنك الاعتقاد أنه حلم يقظة أو خيال أو كذبة أبريل. على أي حال، أصبحت أليكسيا حاملاً بعد فترة وجيزة، وانضمت سوائلها الجسدية السابقة إلى سوائل جديدة: زيت أسود سميك. بمزيج من انعدام الأمن والعزم، تمضي أليكسيا الآن في طريقها: هروب، ولكن بعواقب كبيرة. تُترك الجثث وراءها، ويُعثر على أبّ جديد.
بعض النقّاد وصف الفيلم بالعنيف، وهذا ليس دقيقاً على الإطلاق. لأن العنف لا يهمّ أليكسيا. في أحسن الأحوال، هو وسيلة للدفاع عن النفس، ولتجاوز المرء عجزه وضعفه. منذ تأملات هوميروس حول غضب أخيل، كان الغضب محركاً فعّالاً للعمل والسلوك الإنساني. الغضب يكشف كل شيء عن أنفسنا. فلا أحد يغضب مما يبدو له حقّاً ومشروعاً. يضعنا الغضب أمام ما يتعارض مع رغباتنا أو أفكارنا أو إحساسنا بالعدالة. لكن الغضب ليس له صورة جميلة. لأن الغضب يعني ترك الاعتدال، يعني الإفراط والظلم والسلوك السيئ. الغضب حق ذاتي بالطبع، ولكنه خطأ دائماً من الناحية الموضوعية. قديماً، كتب الفيلسوف الرواقي لوكيوس سينيكا عن الغضب “هياج وإلحاح، مسعور برغبة لا تُقهر في الألم، الأسلحة، الدم ، الجَلد، رغبة ليست بشرية على الإطلاق… لا يهمّ الغاضب ما يحدث له طالما أنه يضرّ بالآخر”. الغضب يعني كل ما يتعارض مع كبت تشبُّع الطبقة الوسطى وحياتنا المرفّهة المعطّلة. الغضب مزعج.
وأليكسيا غاضبة. لذا فهي مزعجة. لذلك هذا الفيلم مزعج.
نعم، هناك صور مزعجة ستصادفها في الفيلم. لكنها أيضاً فاتنة. يمكنها السحر. يأخذ “تيتان” جمهوره إلى ما يبدو في بدايته رحلةَ لاهثة ومرهقة وعاطفية، ليستقر في الأخير عند نقطة هادئة نسبياً وشيء مثل السلام والمصالحة. مع ذلك، فهذا الفيلم هو نقيض المصالحة. لأنه فيلم متجاوز، بتجاوزه كل الموضات الاجتماعية وروح العصر مثل المراعاة والحذر والانتباه، أو ما يمكن اختصاره بالـ”الصوابية السياسية”. “تيتان” حجرٌ ثقيل ملقى في بدن ثقافة التسامح. يوضّح لنا الفيلم أن كل ما يبدو من لٌطف زائف للخطابات الجاهزة لا علاقة له إطلاقاً بالعواطف الفعلية للناس، كما بمشاكلهم، مثل التجاوز، والانتهاك، والإفراط، والرغبة، وأهوال الحياة.
لكن لا ينبغي على المرء أن يتظاهر بأن هذا الفيلم ناجح من جميع النواحي. إنه ليس كذلك على الإطلاق. فلديه العديد من نقاط الضعف. وسيتمكّن هواة النوع على الفور من الاستشهاد بأمثلة من الأعمال التي اقتبس منها أو سرق اقتراحاتها، حيث نُفّذ شيء ما بشكل أفضل، وآخر بصورة أكثر اتساقاً، وآخر جاء على نحو أشدّ جرأة. لكن هذا الفيلم لم يُصنع أصلاً لعشاق النوع. ما يجب انتقاده هو أن المخرجة لم تحسم الاختيار بين فيلمين كانا تحت يديها. أحدهما قصة قاتلة متسلسلة، يمكن للمرء الكتابة في ظلّه أنه هنا أخيراً قاتلة متسلسلة في السينما (وهذا أيضاً من قبيل المساواة بين الجنسين)؛ الآخر هو تنويع على قصة فرانكشتاين. كيفية ارتباط أحدهما بالآخر أو مدى ارتباطهما أساساً، تبقى رغم ذلك غير واضحة. هذا فضلاً عن وجود قصة ثالثة، عن ابنة تبحث عن أب، والعكس.
لكن في المجمل لا قيمة مضافة كبيرة يقدّمها الفيلم، وهو طنّان بعض الشيء، ومغرم جداً بأفكاره. لكنه قبل كل شيء، وهذا هو الانتقاد الأساسي للفيلم، يعمي نفسه بمزيد من الغمامات ويضلّ محطة وصوله بالدخول في شوارع جانبية كثيرة. هذا هو السبب في عطاله عن العمل كهجوم مضاد لسينما المؤلفين القدامى أو في انتفاء إمكانية وضعه كعمل ريادي يفتح سكّة لموجة سينمائية تالية. هذا هو السبب في أنه لا يهزّ قوة وسلطة وإرث تلك السينما، بل للمفارقة يؤكّدها، لأن الكثير من الناس سيمسكون رؤوسهم ببساطة بعد مشاهدة الفيلم.
سيكون هناك العديد من أوراق الندوات المكتوبة في السنوات القليلة القادمة حول هذا الفيلم، حيث تتحوّل الأفكار إلى لحم ومعدن. بالإضافة إلى ما هو واضح (“رعب الجسد” لديفيد كروننبرغ، التاريخ الثقافي للسايبورغ والرجل الآلة)، من المرجح أن تقوم نقابة فكّ الشفرات الجامعية بصبّ نظريات الفيلم والنسوية والتحليل النفسي وجماليات الأداء على هذا الفيلم. يكمن الخطر هنا في التغاضي عن المتعة المطلقة التي قادت المخرجة جوليا دوكورناو وبطلتها الممثلة أغاثا روسيل؛ اللعب الذي هو وقود هذا الفيلم. لعبٌ فوق كل زخارف سينما الرعب. هذا هو المكان الذي يعيش فيه “تيتان” حقاً: في استفزاز عادات فُرجتنا وحِسّ احتشامنا وأفكارنا عن الحبّ والتسامح، في تحطيم كل هذا الأصنام.