سينما لا تراها
فيلم وثائقي تسربت إلية السينما الروائية ومزج بين العام والخاص
“تيتا، ألف مرة” تقاسيم كمان على أوجاع جدة لبنانية
خاص ـ “سينماتوغراف”
الحياة تستمر، وبعض الأشياء الصغيرة تخفف من أحزانها، العواطف الدافئة التي تتبادلها الجدة مع حفيدها الممثل والمخرج ذاته، تبدد قدرا لا يستهان به من جفاف الأيام الأخيرة للعجوز التي تعدت الثمانين عاما، لكنها لا زالت ممسكة بالوجود تتعايش مع وحدتها من خلال نرجيلتها وذكريات زوجها عازف الكمان ومن شرفتها الخاوية تطل على العالم الصغير لتثبت لنفسها وللجميع أن الحياة ممكنة.
“تيتا، ألف مرة” فيلم وثائقي تتسرب إليه السينما الروائية، يمتزج فيه الذاتي بالموضوعي والخاص بالعام والتاريخ بالحاضر، في محاولة بديعة يقودها المخرج محمود قعبور بحثا عن التناغم الضائع في زمن سادت فيه المادة ودفع إيقاعه السريع العواطف والمشاعر أن تختفي. فهو يحتفي بأسلوب رشيق بجدة لبنانية ذات عزيمة قوية، ومحاولات حفيدها السينمائية الشجاعة لتسجيل وتوثيق الجوانب المختلفة التي عاصرتها والتجارب التي مرت بها والتي سيطويها الزمن إلى الأبد بوفاتها.
“تيتا” فاطمة قعبور هي جدة المخرج محمود قعبور تبلغ من العمر 83 عاما، تسكن في أحد أحياء بيروت في بيت خلا من ضحكات أطفالها وأحفادها، وفيما المكان يرقد في زوايا البال مستدعيا مقامات وتقاسيم تحاكي أوتار القلب حتى الوجع العميق، تنزوي مع وحدتها في صمت مهيب يتخلله فقط صوت كركرة نرجيلتها، وحزنها المستمر لأكثر من 20 عاما على غياب رفيق عمرها، عازف الكمان محمود قعبور، فنرى في مشاهد وصور عمرا رحل رغما عن تلك السيدة التي تعد نفسها كل يوم بلقاء من أحبت في منزل آخر تحت التراب.
مخرج الفيلم، حامل اسم جده والذي يشبهه كثيرا، والحفيد الأغلى على قلب “تيتا” يأخذنا إلى عوالم جده، عازف الكمان الذي تعاون مع نخبة من أشهر الفنانين العرب مثل صباح ووديع الصافي وسعاد محمد وعمل لسنوات في فرقة سيدة الغناء العربي أم كلثوم، ومن خلال صورة الجدة وتسجيلات لسبعة تقاسيم أبدعها محمود قعبور الأول في غرفة نومه وسجلها على أشرطة، يتجلى قلق المخرج الشاب من أن يمر العمر على غفلة، ويغدر الموت بهذا الإرث العاطفي والموسيقي على السواء.
ومن هنا يأتي فيلم “تيتا، ألف مرة” ليشكل وثيقة مصورة تضيء على نتاج محمود قعبور الموسيقي وترصد بعضا من سيرته من خلال حكايات “تيتا” وأطباقها النادرة ونكاتها الشقية على ما حولها وتعليقاتها العفوية التي تثير الضحك، وتعاملها مع جيرانها والبائعين عبر السلة الموجودة على شرفة منزلها المطلة على أحياء بيروت الضيقة وأبنيتها القديمة والتي نراها في مرحلة زوال تدريجي لتحل مكانها مدينة سريعة، تفتقد بعضا من ألقها في مرحلة الأربعينات من القرن الماضي.
في “تيتا ألف مرة” يلتقي الحفيد بالجد والجدة في لعبة إخراجية ذكية تتحدى غيابا وقع، وآخر آت لا محال، إنه توثيق حميم عن عالم يترنح بين شرفة الحياة وهاوية الموت من خلال شخصية الجدة الاستثنائية وعازف الكمان الغائب الذي يحضر بكل إبداعه الموسيقي لتعبق تقاسيمه أرجاء الحكاية، فيما وجهه يتراءى لنا في ملامح حفيده المخرج، المتقن للعبة الصورة والضوء متقدما عليهما حينا ومتواريا خلفهما أحيانا، في عمل يدفع المشاهد لتأمل معانيه، والتفكير في العلاقة بين المصير الخاص للشخصيات والمصير العام للوطن.
المدهش حقا في هذا العمل، أداء “تيتا” التي تعي كل التفاصيل واللحظات وتجيد التعبير عنها، حتى عندما تجسد مشهد موتها لا يخلو الموقف من نكاتها ورغبتها في معرفة نتيجة فراقها الحياة، متسائلة في سخرية: (هل قدمت الموت كما ينبغي؟)، شجاعة فكرية وفنية تتحول معها “تيتا” إلي نجمة في التمثيل.
لا شك أن فكرة “تيتا، ألف مرة” مثيرة، بها ما يغري على تقديمها، وهي هنا تتحول إلي عمل متأمل، يتجه بالتفكير إلي العديد من قضايا الوجود: الميلاد والحياة والموت، الخير والشر، الحزن والفرح، القسوة والرحمة، العزلة والتعايش مع الناس، الإيمان والفن، وقد لا نجد إجابة مكتملة على الأسئلة التي نطرحها على الفيلم، أو الأسئلة التي يطرحها الفيلم على نفسه، ولكن من قال أن الفن يقدم إجابات جاهزة للمتعطشين للفهم والمعرفة، حسبه أن يفتح طريق المعرفة أمامنا، وأن يفجر في الأعماق تساؤلات واستفسارات علينا أن نجد لها الحلول والإجابات.