«فينيسيا» ـ صفاء الصالح
في خطوة جريئة جدا اختار المخرج التشيلي بابلو لارين في أول فيلم له ناطق بالانجليزية، “جاكي”، أن يقتحم كواليس البيت الأبيض في واحدة من أشد لحظات التاريخ الأمريكي حرجا، وهي لحظة اغتيال الرئيس الأمريكي جون فيتزجيرالد كنيدي في ستينيات القرن الماضي.
وانطلق لارين من البحث عن لمسة إنسانية وسط كواليس السياسة وعوالمها الصارمة في اختيار شخصية السيدة الأمريكية الأولى الأكثر شهرة والأيقونة الاجتماعية المعروفة جاكلين بوفييه كنيدي التي جسدت شخصيتها ناتالي بورتمان، وجعلها الشخصية المحورية التي تدور الأحداث حولها، بل وحرص على تقديم ما يمكن أن نسميه روايتها الشخصية للأحداث.
وقد تجنب السيناريست نوا أوبنهايم تقديم سيرة شاملة لجاكلين كنيدي، بل اختار تسليط الضوء على فترة قصيرة محددة من حياتها هي اللحظات التي أعقبت مقتل زوجها وإعدادها لجنازته المهيبة وتحضيرات خروجها من البيت الأبيض وتسليمه للرئيس الجديد ليندون جونسون وزوجته.
وقد وضع نوا ولارين هذه الأيام تحت عدسة مكبرة مركزين على رصد كل التفاصيل الصغيرة فيها واللمسات الإنسانية ومناخ الحزن والانكسار الذي يحيط بجاكلين ومحاولتها التماسك بعد هذه الصدمة القوية وترسيخ ما تبقى من آثار زوجها ومنجزه السياسي قبل أن يغمره النسيان بمجيء قيادة جديدة.
وهذا منبع الشخصية التراجيدية في الفيلم لجاكي الموزعة بين انكسارها وصدمتها ومشاعرها الحزينة وعجلة السياسة التي يجب أن تستمر في الجريان.
وينطلق الفيلم من لحظة وصول صحفي، لم يسمه في الفيلم، يجسد دوره الممثل بيلي، لاجراء مقابلة مع جاكلين في مجمع العائلة في هاينيس بورت بماشسيوست، بعد اسبوع من اغتيال زوجها. (واشار كثيرون إلى أنها تحيل إلى مقابلة شهيرة أجراها الصحفي والمؤرخ الامريكي ثيودور هارولد وايت معها). وتستقبل جاكلين الصحفي بشكل مباشر وتلمح له أنها ستقوم بمراجعة المقابلة ومونتاجها إذا لم تستطع ان تقول بالضبط ما تريد أن تعنيه.
وتصبح هذه المقابلة الصحفية مدخلا لحكاية إطارية تقدم مشاهد مختلفة من الأيام الأخيرة التي عاشتها زوجة الرئيس الأمريكي الراحل بعد اغتيال زوجها وسعيها لإقامة مراسم جنازة فخمة تليق به، ورغبتها في أن تخلد منجزه في قلوب الأمريكيين، وكواليس مستشاري وموظفي البيت الابيض، ومشهد اغتيال زوجها وهي إلى جانبه ببدلتها الوردية التي تلطخت بدمائه، والتي ارتدتها لاحقا، وهي تقف إلى جانب الرئيس جونسون وهو يؤدي اليمن الدستورية خلفا لكنيدي، ومشاهد استرجاعية لها في فترة رئاسة كيندي. كما تشمل المشاهد مشهدا لها وهي تعيش أيامها الأخيرة في البيت الأبيض تبتلع الحبوب المهدئة وتدخن وتشرب الفودكا، وتحاول في الوقت نفسه أن تبدو متماسكة.
أما أكثر المشاهد تراجيدية فهي عندما تبدأ بتجميع أغراضها بنفسها لا سيما لعب أطفالها وتحفها ووضعها في صناديق قبل أن تترك البيت الأبيض لسكانه الجدد الذين بالتأكيد سيفرضون ذوقهم على ديكوره الداخلي الذي حرصت على ترتيبه على ذوقها الشخصي.
يركز لارين واوبنهايم على هذه العلاقة بالمكان، والفراق التراجيدي عنه، وهو هنا البيت الأبيض الذي كانت هي ملكته غير المتوجة وحرصت على أن تضفي لمساتها على كل شيء فيه.
ويقدم لارين انتباهة سينمائية ذكية في الاعتماد على برنامج تليفزيوني يعود إلى مطلع 1962 تحت عنوان “جولة في البيت الأبيض مع السيدة كنيدي”، حيث تأخذ هي الفريق التلفزيوني في جولة في أروقة البيت الأبيض وتتحدث عن اللمسات والتجديدات التي اضفتها بناء على ذوقها فيه، مشيرة إلى “أن الأشياء والتحف الفنية تبقى لزمن طويل أكثر من البشر”.
هذه الجولة التليفزيونية تصبح القطب الثاني الذي يستعمله اوبنهايم ولارين في فيلمهما إلى جانب المقابلة الصحفية التي تحدثنا عنها، ليجمعا بين دفتيهما تلك المشاهد المتناثرة التي يقدمانها.
ويعمد لارين إلى إعادة تصوير مشاهد من البرنامج التلفزيوني ويصورها بالأبيض والأسود، لكنه يصور مشاهد لكواليس تصوير البرنامج التليفزيوني في البيت الأبيض ملونة، كما هي الحال مع حركة مساعدتها المخلصة نانسي توكرمان (جسدتها بلمسة حضور محببة وبحيوية الممثلة غريتا غيرويغ)، بين الكاميرات التلفزيونية محاولة اعطاءها توجيهات للتعامل مع الكاميرا وتشجيعها، وفي لقطة ذكية نرى عيني جاكلين تنظران جانبيا بعيدا عن الكاميرا في المشهد التليفزيوني بالابيض والأسود، ليقطع بمشهد ملون الى مساعدتها تقف خلف الكاميرا في الزاوية نفسها التي نظرت اليها لتحثها على الابتسام، ويقطع ثانية الى ابتسامة جاكلين بالأبيض والاسود.
ويقدم الفيلم صورة قوية لبوبي (روبرت كنيدي) شقيق كنيدي (أدى دوره بنجاح الممثل بيتر سارسغارد)، وهو يقف إلى جانبها في كل التفاصيل بعد اغتيال زوجها، ويركز على نقاشهما بشأن تخليد إرث كينيدي والتذكير بما كان ينوي انجازه ولم يكمله، وحرصهما معا على تحقيق ذلك وترسيخ صورة كينيدي ومحبته في أذهان الامريكيين. ويبدو بوبي قوي الشخصية في حديثه مع الجميع بمن فيهم الرئيس جونسون الذي ظل شخصية هامشية لم يركز عليها الفيلم كثيرا.
وثمة تركيز أيضا على عقد مقارنات بين الرئيسين، جون كيندي وابراهام لنكولن وكلاهما اغتيل في النهاية. فنرى في البرنامج التليفزيوني السيدة كنيدي تتوقف طويلا عند غرفة لينكولن متحدثة عما تحتويه من مقتنيات، كما ترد في الحوارات مثل هذه المقارنات والحديث عن دور لينكولن في مجال الحقوق المدنية وإنهاء الرق والعبودية في الولايات المتحدة الامريكية. وتصل هذه المقارنات ذروتها في مراسم جنازة كنيدي التي حاكت جنازة لينكولن، حيث حمل جثمانه على عربة تجرها الخيول وسار خلفه حصان بلا فارس، ثم المشيعون سيرا على الأقدام وفي مقدمتهم جاكلين وشقيقه بوبي حتى دفن جثمانه في مقبرة ارلينغتون.
لقد ركز الفيلم كثيرا على سعي السيدة كنيدي حينها لأن يحظى زوجها بمراسم جنازة فخمة تليق به، وعلى أن تستثمر حدث الجنازة والتأبين للتذكير بمنجز زوجها ومساره السياسي مشبهة إياه بالرئيس لينكولن، بينما كان المستشارون في البيت الأبيض يحرصون على أن يجعلوا التشييع والجنازة تمر بهدوء، لكي ينتقلوا إلى مرحلة سياسية جديدة.
ومن الطريف أن نذكر هنا أن سيدة بريطانية هي الليدي جين كامبل وصفت هذه الجنازة حينها في تقرير كتبته لصحيفة لندن ايفيننغ ستاندرد قائلة “لقد منحت جاكلين كنيدي الشعب الأمريكي شيئا لطالما افتقدوه، ألا وهو : الفخامة”.
ولتجسيد رؤية ورواية جاكلين للأحداث امتلأ الفيلم بمشاهد تتحدث فيها عما حدث، بل وعن مفاهيميها في الحياة والدين، كما هي الحال مع المقابلة مع الصحفي، أو المشاهد المتعددة التي ظهرت فيها متحدثة او معترفة للقس الكاثوليكي وسط الطبيعة وليس داخل الكنيسة (أدى دوره الممثل البارز جون هارت) أو احاديثها الحميمية مع مساعدتها نانسي توكرمان داخل البيت الأبيض.
ولقد اثبت لارين في هذا الفيلم قدرته العالية على إدارة الممثل فهو فيلم يعتمد بالدرجة الأساس على الأداء، وبراعة ممثليه، فقدم معظم الممثلين فيه أداء مميزا رغم قصر أدوار بعضهم، كما هي الحال مع سارسغارد، غيرويغ،هارت، كرودب، وبالدرجة الأساس الممثلة بورتمان، الذي شكل هذا الفيلم فرصة ذهبية لها لإبراز قدراتها في الأداء في تجسيد شخصية كانت ايقونة شعبية وفي لحظات تراجيدية حاسمة في حياتها.
وحرصت بورتمان على أن تدرس الوثائق البصرية المتوفرة عن جاكلين وتتماهى مع شخصيتها، وأن تجسد صورتها كشخصية تعيش حالة ما بعد الصدمة، متنقلة بين ألمها وانكسارها ورغبتها في الوقت نفسه بالظهور بمظهر المتماسكة في تلك اللحظة العصيبة.
وجاءت كل العناصر البصرية الأخرى لخدمة هذا العماد الذي قام عليه الفيلم: أداء الممثل، فراحت كاميرا مدير التصوير الفرنسي ستيفان فونتين، (من أفلامه: نبي، صدأ وعظام، كابتن فانتاستك) تركز على رصد أدق انفعالات الممثلين في لقطات قريبة متواصلة.
وكان الفيلم فرصة أيضا للموسيقية البريطانية الشابة، ميكا ليفي، لإثبات موهبتها في وضع الموسيقية التصويرية في السينما بعد تجربتها الناجحة في فيلم “تحت الجلد”، ولاسيما في تلك الموسيقى الجنائزية في مشاهد التشييع أو الوتريات الحزينة في تلك المشاهد الداخلية وسط مظاهر الصدمة والحزن.
اخيرا يمكننا القول أن ميزة لارين القادم من تشيلي الى الولايات المتحدة الأمريكية كانت بحثه عن الإنسان وتركيزه على اللمسات الإنسانية وسط عالم السياسة الأمريكية الصاخب.