هل يمكن للسينما أن تكون نوعا من أنواع الذاكرة؟ ذاكرة لشخص، أو لشعب، أو لزمن مضى أو تخيليه لزمن آت، هي بالطبع ستبقى ذاكرة مختلفة وخلاقة، لا يحدها الواقع، فهي قابلة للإبداع وللحذف والاضافة، ويمكن التأكيد على أنها ذاكرة فنية شديدة الخصوصية، تمس المشاعر وتوقظ دوما الحنين لكل شيء.
تقدم المخرجة الشابة دينا حمزة في فيلمها «جاى الزمان»، السينما كذاكرة شخصية عن والدها الشاعر الغنائي محمد حمزة، واختارت عنوان الفيلم من بين ثنايا أغنية «أي دمعة حزن لا»، (قال إيه جاي يا زمان تداوينا، من إيه جاي يا زمان تداوينا)، وكأنها تدخل من خلال هذا المعنى إلي مرحلة ما بعد الفقدان لتعرف والدها وتعرفنا عليه، وتقدمه لنا في محاولة بصرية، ترجمت من خلالها مشاعرها تجاه والدها، ليكون الفيلم الذي شارك في المهرجان القومي للسينما المصرية، ليس لإحياء ذكرى محمد حمزة فقط، وإنما أيضا محاولة من قبلها للتغلب على صدمة موته.
خواء كبير شعرت به دينا بعد رحيله، غيابه المفاجئ أربكها وكان كفيلا أن يصيبها باضطراب نفسى، خشيت أن يدفعها اليأس للانتحار، تصورت نفسها وهى تقفز من الشرفة وتنهى حياتها، شعرت أنها تنفصل تدريجيا عن الواقع لتبقى أسيرة لماضى يفصلها عن حاضر غاب بجسده عنه، وفى لحظة قررت ان تغادر كل ذلك، أن تستعيد أيامه، تنقب فيها وتبحث ورائها، عن الناس الذين اقتربوا منه، والأماكن التى أرتادها، وكلماته الرقيقة التى عاشت بأصوات كبار مطربى عصره.
فى فيلم «جاى الزمان» تذهب الابنة دينا الى مبنى الاذاعة تتجه الى إذاعة الاغانى التى كانت تحتفل بذكرى رحيل صاحب أكثر من 1200 أغنية، تسألها المذيعة عن سبب مجيئها فتقول جئت أبحث عن أبى، وتتوالى مقاطع من أغنياته التى استأثر بأغلبها العندليب الأسمر، أى دمعة حزن لا، حاول تفتكرنى، زى الهوا، موعود، مداح القمر، سواح، عاش اللى قال، وتتجه بكاميراتها الى بيت عبد الحليم فى الزمالك تلتقط عبارات الحزن والفقد والدموع التى خطها محبوه بعد رحيله، تدخل الى صالونه الشهير، حيث كان أبيها يقضى أغلب أيامه مع العندليب وبليغ، وتذهب الى مجلة روزاليوسف التي كان يعمل صحفيا بها، ويتحدث بعض من رافقوه عن تأثيره على مسار الأغنية وكيف استطاع ان يضع بها دستورا للحب.
تتداخل الصور الفوتوغرافية لتصبح شاهدة عن لحظات السعادة والبراءة حين يحملها الأب وشقيقتها التوأم صغارا، وحين تحتفل الأسرة مجتمعة بعيد ميلاد الابن، الأم المذيعة فاطمة مختار التى كتب لأجل عيونها حمزة «العيون السود» لتشدو بها وردة، وتذهب الكاميرا الى الاسكندرية التى كان الاب يهفو لزيارتها فى مرضه، تحقق امنيته وتستعيد لحظات الألم فى الغرفة 505 التى كانت شاهدة على وداعه الاخير.
وفى ثورة يناير وبينما تنزل الى ميدان التحرير تكتشف ان أبيها شارك فى الثورة، رغم رحيله عن الدنيا، فقد كان حاضرا بكلماته التى شدت بها المطربة الكبيرة شادية «ياحبيبتى يامصر» وأغنياته الوطنية بصوت العندليب «فدائى»، فإذا بالجماهير ترددها فى الميدان.
ورغم شجن الفيلم الا أنه يتجاوز فكرة رثاء وتجسيد اسم محمد حمزة، ليصبح تجسيدا ورثاء لعصر بأكمله، لم تعشه دينا أو جيلها، لكنها بما قدمته اشعلت الحنين تجاه زمن جميل ستبقى مشاعر اغنياته حاضرة يرددها الأحباب في كل زمان ومكان.