*** أسامة عسل
الأفكـار لا تتغير في ليلة وضحاها، إنما تُزرع في عقولنا بمرور الوقت مع توسّع حجم التجارب التي نعيشها نتيجة ما نتعرض له من أحداث ومواقف حقيقية، والفكرة في السينما ليست عابرة، بل هي مركبة يحضر فيها الجانب الأدبي والرؤية الفنية وطريقة المعالجة والطرح السينمائي، مما يجعل الفيلم يستحق أن يكون ذاكرة الشعوب.
ومن تلك النوعية، واحتلا المراكز الأولى على موقع IMDb لتقييم الأفلام، فيلمي «العراب» الذي حصل على تقييم 9.1، و«الخلاص من شاوشانك» الذي كان الأكثر تقييماً بنتيجة 9.2، ولكن مع نهاية العام الماضي 2021، كانت المفاجأة السينمائية غير المتوقعة، أن يأتي الفيلم الهندي «جاي بهيم ـ jai bhim» ويحصل على نتيجة 9.6، ليطيح بالفيلمين السابقين بعد سنوات من تصدرهم تقييم الموقع السينمائي الشهير، لينضم إلى لائحة من الأعمال التي نطلق عليها أفلاماً خالدة، حيث تستقي فكرة خلودها من قدرتها على التعبير عن حالات إنسانية.
وفي السطور التالية، نرصد سر تفوق هذا الفيلم، والضجة التي أحدثها داخل المجتمع الهندي وحول العالم، خصوصاً أنه يعبّر عن حركة جديدة يساهم في نشرها شباب السينما، ووجد دعماً كبيراً من المخرجين والممثلين الذين أشادوا بالعمل الفني الفريد من نوعه.
فيلم «جاي بهيم» من اخراج كاتب السيناريو ت. ج. جانافيل (42 عاماً) والنجم سوريا سيفاكومار الذي لعب دور البطولة، وهو مبني على قصة حقيقة تعود إلى عام 1993 لمحامٍ حارب في المحكمة من أجل التماس قدمته إمرأة، بعدما احتجزت الشرطة زوجها ثم أعلنته من عداد المفقودين، ويسلط الضوء ضمن أحداثه على الظلم والتمييز الذي تعانيه طائفة تتعرض إلى إقصاء متواصل وانتهاكات، سببها النظام الطبقي الموجود في الهند، والمدهش في هذا العمل أن يتولى فيه ممثلون من هذه الفئة للمرة الأولى الأدوار الرئيسية، وأن يكون ناطقاً باللغة التاميلية المغمورة، ولا يكون من إنتاجات أفلام بوليوود ذات الموازانات الضخمة، وأن تشارك في دعمة وتقديمه منصة البث التدفقي «أمازون برايم»، وقد قوبل بالإشادة لنجاحه في التعبير عن أفراد الطبقة الدنيا باعتبارهم ضحايا لا صوت لهم.
وبقدر ما يدور هذا العمل حول وحشية الشرطة، فهو أيضًا عن الطبقية، التي لا تزال سائدة في شبه القارة الهندية، ويقدم مشاهد مزعجة وصادمة حول أحد الأشخاص من ولاية تاميل نادو (جنوب الهند)، والذي يتم القبض عليه ظلماً لسرقة مصوغات ذهبية من زوجة أحد أعيان قريته، وتستخدم الشرطة وسائل تعذيب متعددة لإجباره على الاعتراف، ويعتمد الفيلم على سيناريو مكتوب بحرفية يركز على الاضطهاد الذي تواجهه أفراد تلك القبائل المهمشة.
في مشهد من «جاي بهيم»، تلتقي مجموعة من رجال تلك القبائل بقائد شرطة يرأس لجنة تحقيق حول اختفاء ثلاثة من أقرباء الشخص المفقود، والذين كانت الشرطة تستجوبهم بشأن قضية السرقة، ويستمع القائد إلى من جلبهم المحامي ليتعرف من خلالهم على حكايات رهيبة عن التمييز والتنمر، أخبره أحدهم أن أفراد الشرطة اعتقلوه لمجرد التحية عليهم، وأخبره آخر كيف تم القبض عليه لمجرد أنه حاول الابتعاد خوفاً منهم، وحكت إمرأة كيف أُجبر زوجها على «الاعتراف» بجريمة لم يرتكبها بعد أن بدأ رجال الشرطة في التحرش بها، وذكر صبي أن الشرطة ألقت القبض عليه لمجرد أنهم لم يتمكنوا من الحصول على والده، وكيف أن تلك الحادثة جعلته مشتبهًا دائمًا في المدرسة، ليؤكد المحامي لقائد الشرطة، أن هؤلاء الأشخاص (ملعونين إذا فعلوا ذلك، ومدانين إذا لم يفعلوا!).
هذا المشهد الطويل هو صدى المشهد الذي افتتح الفيلم، حيث نرى العديد من السجناء يخرجون من السجن، عدد قليل من رجال الشرطة من المراكز المحيطة ينتظرون، وعندما يخرج كل سجين، يُسأل عن طبقته، إذا ذكروا اسم طائفة سائدة يطلب منهم المغادرة، لكن أولئك الذين ينتمون إلى طائفة أو قبيلة مهمشة، يطُلب منهم الوقوف في زاوية، لالتقاطهم كمشتبه بهم في العديد من الحالات التي لم يتم حلها في مراكزهم، وعندما يشتكي رجال الشرطة من قلة عددهم لفرض القضايا، يُقال لهم إن بإمكانهم اتهام بعضهم بارتكاب أكثر من جريمة.
ومع مشاهد كهذه، يرصد المحامي «جاي بهيم» مدى قوة الإساءة والإذلال التي تنهال على المحرومين، من قبل من هم في السلطة، ونوع التحدي الذي يتطلبه الأمر لتحقيق العدالة لهم.
ينجح الفيلم في تقديم صورة دامية للفظائع والعنف المنهجي الذي ترتكبه الشرطة والطبقة العليا ونظام العدالة والحكومة ضد هذه القبائل، ويؤكد على حقيقة مريرة في السنوات الخمس الماضية، حيث تم الإبلاغ عن ما مجموعه 300 جريمة قتل مرتبطة بالطبقات الاجتماعية في «تاميل نادو» وكان معظم الضحايا من تلك القبائل المهمشة.
وبالفعل، تم تصوير مشاهد قاعة المحكمة بمهارة واستيعاب كل تفاصيلها، المواقف الإنسانية بين المحامي والمرأة التي تريد أن تعرف أين ذهب زوجها المفقود، وترافقها ابنتها الصغيرة، كانت أكثر من رائعة، البحث عن المعلومات ورحلة الوصول إليها، أضفت على أحداث الفيلم إثارة توثيقية، السرد السينمائي والتصوير الليلي والنهاري وتوظيف الإضاءة، كلها عناصر جمالية ساهمت في تميز هذا العمل السينمائي.
في مرحلة ما في الفيلم الذي يبلغ عرضه ثلاث ساعات تقريبًا، كانت هناك لحظة تثير القشعريرة حيث تدير إمرأة قبلية – وهي زوجة الرجل المفقود في الفيلم – ظهرها للسلطة، رافضة الانصياع لنظام الهيمنة الذي استغل فقرها وحاول رشوتها لإغلاق القضية، وكأن هذا المشهد «الجماهيري» مكتوب لكل شخصية عانت من تلك القبائل، لمنحها فرصة النظر إلى مضطهديها في أعينهم، لتقول لهم: (لا يمكنك كسري أو شراء سكوتي).
هذا المشهد الذي صدر في الفيلم، يمثل شهادة على المقايضات الصغيرة التي سيتعين كذلك على صناع السينما رفضها، من أجل عدم نشر قصص الظلم والاستغلال السائدة – أو طرح قضايا توقع بالفاسدين وتدينهم أمام الرأي العام.
«جاي بهيم» هو نظرة ثاقبة في نضال من أجل المضطهدين، لكن هل يتمكن المحامي وزوجة الرجل المفقود من كشف الحقيقة، في ظل وجود نظام كامل يقف ضدهم؟، أحداث العمل تكشف عن ذلك، لكن في النهاية ستبقى السينما أداة المضطهدين للتعبير عن قضاياهم، لأن ما يميز المضطهد أنه يعي الظلم، وأسبابه، وبالتالي يناضل من أجل تغييره، وهذا الفيلم سيبقى في الذاكرة لجرأة ما طرحه، وتعبيره ببراعة عن آلام وآمال المشاعر الإنسانية.