«جزيرة الألماس».. يرصد المتغيرات الجديدة على المجتمع في كمبوديا

09-09-16-965041861باريس ــ حميد عقبي

«جزيرة الألماس» هي جزيرة متصلة بمدينة «بنوم بنه» عاصمة كمبوديا، حيث يقام عليها حاليا مشروع عمراني ضخم كي تتحول إلى جنة حديثة ومتطورة وبها فنادق ومنتجعات سياحية فخمة، هذا المشروع الكبير، يجتذب آلاف الشباب للعمل والذين يأتون من عمق الريف الكمبودي الفقير ويكتشفون دنيا جديدة حيث يعملون في النهار ويسهرون في الليل، كما تجذب الجزيزة الطلبة وشباب العاصمة ويقضون الليل وهم يتجولون بدرجاتهم النارية، يترك «بورا» قريته ويأتي للعمل كعامل بناء هو وأصدقائه، ويلتقي بشقيقه الأكبر «سوليه» الذي ترك عائلته منذ خمس سنوات، ويخوض «بورا» مغامرته الغرامية الأولى ويكتشف هذا الأخ الغامض وهذا العالم الجديد والساحر.

«بورا» وأصدقائه في مرحلة المراهقة، لكن الظروف دفعتهم لترك الأهل والعمل الشاق والمتعب في هذا المشروع العمراني وما أن يحل الليل يهرع هؤلاء  إلى التسكع  ومشاهدة المباني المكتملة والبحث عن مغامرات عاطفية، هذه الجزيرة كانت جرداء ومهجورة وتحولت اليوم إلى مسرح الحداثة والتطور لتفرض متغيرات اجتماعية جديدة لم يكن يعرفها المجتمع الكمبودي المحافظ، الشاب «بورا»، 18 عاما، ترك قريته الهادئة لينخرط في واقع اجتماعي مغاير ومختلف تماما كنقطة انطلاق للذهاب إلى أبعد من ذلك، إلى  بلد آخر. يصاب «بورا» بخيبة أمل بعض الشيء كون العمل شاق، ويتقاضى مبالغ ضئيلة وهناك مخاطر جسيمة وكثيرا ما يسقط أحدهم من على السقالات وهذا ما سيحدث لصديقه.

«دافي شو»، هذا السينمائي الشاب، ينقل لنا ويصور واقع الشباب الكادح بلمسات بسيطة وسلسة ولكنها دقيقة، يلتقط الكثير من الإشارات في هذه الفترة الانتقالية، على حد سواء لبطله «بورا» ولبلده كمبوديا والبلدان التي تتحول إلى المدنية الحديثة بسرعة الضوء حيث يداس على الماضي أو يضعف ثم ينقرض الإرث الثقافي والروحي أو تقل أهميته وخصوصا لدى الشباب، يعتمد الفيلم على المصادفات حيث في ليلة واحدة يجد «بورا» شقيقه الكبير والذي لم يسمع عنه أي خبر منذ مدة طويلة، «سوليه» طالب وراكب الدراجة النارية أي أنه ينتمي إلى طبقة اجتماعية أخرى ولديه حلم بالسفر إلى أمريكا، هذا الأخ يبدو باردا وغامضا كالشبح ويترك مساحة تفصله عن أخوه الصغير ولا يستقبله بالترحيب والعناق لكنه لا يرفضه أو يتنكر له، ومن هذه العلاقة يطرح المخرج الكثير من الأسئلة حول العلاقات والتواصل والتفاهم في المجتمع الكمبودي المعروف بروحانيته وبساطته، وهل هذه التحولات الأسمنتية الضخمة ستقضي أو تجمد حرارة العلاقات والتواصل بين أفراد المجتمع؟.

«بورا» يصف جزيرة الماس الحقيقية أنها في الليل تتحول إلى حلم بهيج ومفرح، وعكس الفيلم هذه الرؤية لبورا وأصدقائه من الألوان البلورية والوردية وكل الوسائل التقنية حاولت تلبية وعكس رؤية هؤلاء الشباب الواقعين تحت تأثير سحر التمدن.

في النهار نتعايش مع العمل المرهق ونتعرض لهذا الضوء الأبيض والشمس القوية وضوئها الذي يرهقنا ونكاد نصاب بالعمى ولا توجد أحداث ذات أهمية ويكون الحديث دائما عن الليل.

تنتهز الكاميرا أي فرصة لتلتقط بورتريهات معبرة للوجوه في لحظات التعب من العمل ولحظات الحزن والفرح، وأحيانا نغوص في الصمت أو مع حوارات قصيرة يتخللها الصمت ويركز المخرج على تعابير الوجوه وعكس وجهة نظر الشخصيات، وتتحرك الكاميرا بحركات بانورامية وخصوصا بين «بورا» وشقيقه «سوليه» لتخلق شعورا بوجود مسافة وبعد يصعب كسره، وكذلك نرى هذه الحركة بين شخصية «بورا» والأماكن للدلالة على الربط وتوثيق الصلة بين هذا العالم الجديد والشخصية.

في الليل يكون كل شيء مفعم باللون، وتتوشح المباني ستائر الضوء المزركش، وتلبس الشخصيات ملابس أنيقة وتكون المواعيد الفائتة حيث يحاول كل شاب الحصول على ملامسات ومداعبات من رفيقته، وقد يحدث الحصول على قبلة حارة وحنونة فلسنا في واقع يشبه المجتمع الغربي وحرية جنسية بلا حدود، وقبل عدة سنوات كانت الفوارق شاسعة بين الفتيان والفتيات وهناك عادات وتقاليد تجعل العلاقات العاطفية والجنسية محرمة قبل الزواج وكان ملبس الفتيات مختلفا ومحتشما، العلاقات اليوم بين الفتيان والفتيات ليست بتعقيدات الماضي ولكن نيل ملامسات خفيفة أو قبلة وليس أبعد من ذلك، تأثيرات الماضي حاضرة لكنها تضعف مع نمو جزر عمرانية ومشاريع ضخمة بتمويل من شركات صينية وخليجية.

لحسن الحظ، حضرت لمشاهدة الفيلم بحضور المخرج «دافي شو» وبعد العرض تحدث المخرج عن فيلمه، وكان النقاش مع الجمهور ممتعا، وسأحاول تلخيص أهم النقاط كي نضعكم في مواجهة سينمائية جميلة وشيقة مع عمل يستحق المشاهدة رغم بساطة القصة والأسلوب لكن البهجة والمتعة والأفكار تهطل بنعومة لتشق طريقها بهدوء إلى عقل وقلب المتفرج، وإليكم أهم النقاط :

ـ وضح المخرج أن الجزيرة أي المكان هو المنطلق الأساسي للحكاية ولهذا زار المكان وأستمع لحكايات كثيرة وهو يزخر بدلالات ومناخات فنتازية وليس الغرض التوثيق ولكن محاولة متأنية وعميقة لواقع الشباب ومساحة بوح لأحلامهم وقلقهم وكذلك رصد لتحديات جديدة تواجه المجتمع الكومبودي.

ـ يميل المخرج إلى استثمار تقنية التصوير الرقمي والتكولوجيا الحديثة لعكس سحر ورؤية الشباب للجزيرة المتخمة بالألوان والأضواء الليلية وقال: «طالما توجد هذه التقنية فلماذا يخاف البعض من تجريبها ورؤية ما ستنتجه من تأثيرات وما ستعكسه من معاني ودلالات؟».

ـ  موت «أم بورا» لا يعني موت الماضي الكمبودي وظلت الأم محورا هاما رغم أنها لم تظهر سوى في البداية إلا أن صوتها ظل حاضرا ومؤثرا، كما أن عدم وجود ظهور للأباء وشخصيات أخرى كان من أجل بقاء الفيلم كفضاء رحب وحر لفئة الشباب. وقال «دافي شو»: «عندما تتجول في هذه الجزيرة تُحسها أنها تعج بالشباب والشابات، المجتمع الكمبودي شاب وشبابه يتطلعون لمستقبل أفضل ويتعاملون مع الوسائل التكنولوجية وهم كغيرهم يميلون إلى الاستهلاك والتمتع بالحياة ولهم عالمهم الخاص».

ـ اختار المخرج ممثلين غير محترفين وجلبهم من الواقع، كما خصص ثلاثة أشهر لتدريبهم ولم تكن هذه المرحلة سهلة، وذكر أن الكمبودي قد يرتبك عند تنظر إلى عينيه أو تراقبه، فما بالكم بوجود كاميرا وأضواء وكادر فني وتقني، ولكن النتائج كانت مذهلة بعد هذا الجهد الشاق. 

«جزيرة الألماس ـ Diamond Island» هو الفيلم الروائي الأول للمخرج الفرنسي الكمبودي دافي شو، حصد عدة جوائز مهمة وعرض ضمن أسبوع النقاد بفعاليات مهرجان كان السينمائي 2016، وهو يشجع وينشط الحركة السينمائية في كمبوديا فهذا البلد لا توجد فيه صناعة سينمائية لكن المتغيرات الجديدة قد تساهم في ميلاد سينما جديدة.

Exit mobile version