برلين ـ «سينماتوغراف»: د. أمل الجمل
«أنا مخرجة، ولكن أيضاً امرأة. هذا مزيج رائع». هكذا نطقت المخرجة البولندية مالجورزاتا زوموفسكا في حفل الختام بمهرجان برلين الخامس والستين عقب تسلمها الدب الفضي لأحسن مخرج مناصفة مع مخرج فيلم «عفارم»، وذلك عن فيلمها «جسد» الذي يشكل الفيلم الحادي عشر في سلسلة أعمالها المتنوعة بين وثائقي وروائي.
يعتمد الفيلم في جزء كبير منه على السخرية الماكرة الاستبطانية. إنه كوميديا سوداء عن التعامل مع الفقد، وما يعنيه أن يبقى المرء بعده على قيد الحياة، عن الحزن إلي حد اليأس عندما يهزم الجسد والروح، عن نيران الحقد والغيرة وأجيج الغضب، عن مشاعر الوحدة تقتل بقايا الإنسان، عن رفض الحياة وتفضيل الموت عليها بالانتحار، عن إرادة الإنسان وتقوية علاقته بنفسه وجسده والسبيل الذي يساعده في أن ينتشل نفسه وروحه لينجو من هذا الخراب الوجداني، عن العلاقة بين التفكير العقلاني ومدى وقوة الإيمان بالطاقة الروحانية للكون وقدرتها على العلاج.
يبدأ الفيلم من مشهد نرى فيه رجلا يقود سيارته التي تتساقط على زجاجها حبات المطر. على شاطئ قرب الأشجار عند طرف الغابة يركن سيارته ويهبط ليسير في الغابة حتى يختفي. في اللقطة التالية نرى أفراد الشرطة يحيطون بالرجل وقد تدلت قدماه من أعلى فرع شجرة بعد أن انتحر شنقا، والطبيب المحقق الجنائي يُملي المحضر على مساعده واصفا الجثة وموقع الجريمة، وعندما ينتهي يطلب من مساعده إنزال الجثة بقطع الحبل، فيرتطم الجسد بالأرض، وبعد قليل نرى الجثة تتحرك ثم فجأة يقف الرجل المنتحر ويفر هاربا وسط ذهول الجميع، مما فجر ضحكات الجمهور في قاعة العرض السينمائي.
في المشهد التالي يدور الحديث عن وقوع جريمة انتحار أخرى لكن أشد قسوة، امرأة منتحرة في حمام محطة القطار وجنين مقطع الأوصال بوحشية مروعة. يرفض المساعد بإصرار وتحد كتابة محضر يصف موقع الجريمة لبشاعتها، فيتولى الأمر الطبيب المحقق بنفسه برباطة جأش غير إنسانية. يعقبه مشهد مع ابنته نراه وهو يلتهم طعامه بشراهة وكأن لا شيء قد رآه، وكأنه انفصل تماماً عن عالم الانتحار والدماء والأشلاء الممزقة.
المشاهد الثلاثة السابقة تُؤسس بذكاء ومكر – وبأسلوب لا يخلو من الكوميديا – لشخصية المحقق الجنائي الذي يُؤدي عمله بشكل روتيني يخلو من إنسانية، وكأن المخرجة من خلال تلك المشاهد تنسج خيوطاً – في تطورها – تُسهم بشكل ما في كشف ملامح الشخصية وتركيبتها النفسية، فهو مثلاً لم يهتم بفحص جثة المنتحر حتى يتأكد من وفاته. إنه بناء درامي للشخصية يشي من طرف خفي بأشياء عن توتر علاقته بابنته والجدران المنتصبة عاليا بينهما، ويرسم ظلالاً تتضح بقوة في النصف الثاني من الفيلم عن كونه أحد أسباب وفاة زوجته. ورغم أن المخرجة تبدأ به أحداث فيلمها لكنه ليس بطلها الأوحد، فالشريط السينمائي يُفسح مجالا أكبر لعالم النساء، وفي حقيقة الأمر يوظف شخصية الرجل هنا لكشف تأثيره السلبي على عالم المرأة، ومعاناتها النفسية، من خلال تتبع المصير المتداخل لثلاث شخصيات مختلفة أشد الاختلاف، وهى في ذات الوقت ترصد نظرتهم وتوجههم المتباين إزاء جسد الإنسان، وعلاقتهم بأقرب الناس إليهم. أما الشخصيات الثلاث فهي؛ الطبيب المحقق الجنائي يانوش، وابنته المراهقة أولجا، والطبيبة النفسية آنا.
تعاني الفتاة المراهقة من فقدان الأم وتعيش فترة حداد تصيبها بأزمة نفسية وعصبية تجعلها تلتهم الطعام بنهم مرضي حتى تُصاب بالتقيؤ وفقدان الوعي، فيدخلها والدها مصحة للعلاج النفسي، وعندما تتعافى أولجا وتقرر الطبيبة المعالجة آنا خروجها من المصحة يرفض الأب ويُصر على بقائها مُدعيا أنه يخشى عليها أن تحاول الانتحار بسبب الاكتئاب، وبالطبع لن يقول شيئاً عن رغبته في التحرر من أعبائها ومسئوليته إزائها.
أما آنا الطبيبة النفسية فهي امرأة في منتصف العمر، من دون زوج، فقدت ابنها الصبي منذ فترة وأصابها ذلك بحزن شديد لكنها تحاول أن تتعافى من أحزانها، والتنفيس عن آلامها بالصراخ والتوحد مع الكون وتقوية الجانب الروحاني عندها – حتى أنها تزعم في لحظة ما قدرتها على التواصل مع الموتى – وهو ما تسعى لإكسابه للفتيات المريضات عندها في مشاهد أثارت كثيرا الضحك الصاخب بين الجمهور. تعيش آنا بصحبة كلبها الضخم الذي تأخذه في حضنها ليلاً ليدفئ برودة ليلها ويؤنس وحدتها، وإلى جانب اللقطات التي تكشف احترام جيرانها لها ومودتهم لها توجد لقطات أخرى تكشف عن الجوع العاطفي الذي تعانيه عندما تختلس نظرات مسروقة لبعض العشاق يتبادلون القبل والأحضان في الشوارع الجانبية. هي أيضاً ترعى أمها التي تعاني من ألزهايمر جراء الشيخوخة. وفي لقطة إنسانية رقيقة تعبر الأم عن رغبتها في رؤية الحفيد فتمنحها آنا صورة لصبي سرقتها من إعلان معلق على باب العمارة، فتهدأ المرأة المسنة قليلا لكنها سرعان ما تطلب منها أن تحضر حفيدها معها في المرة القادمة فتهز آنا رأسها وهى تشيح بوجهها المثقل بكل آلام الأم الثكلى تجاه الحائط لتخفيه عن الأم وتصمت طويلا.
وعندما تُودع أولجا في المصحة النفسية تسعى آنا إلى معرفة لماذا تكره الفتاة المراهقة والدها، وتشجعها وتساعدها على الشفاء من خلال لعبة تمثيلية تنفيسيه، حيث تقوم إحدى زميلاتها بتقمص دور الأب حتى تواجهه أولجا، وتذكر له أسباب كراهيتها الشديدة له، ومن ثم تستطيع أن تضربه وأن تصرخ حتى تفرغ الطاقة السلبية بأعماقها.
يلمس الفيلم موضوعاً مهما وساخنا في بولندا التي تعاني من ارتفاع نسبة الانتحار لأسباب عدة، لكنه أيضاً يرسم ذلك التناقض الذي يضرب مجتمعا وصل لأحدث وسائل التكنولوجيا والرفاهية ومع ذلك لايزال ممزقا بين التفكير العقلاني وبين التفكير الذي ينتمي للماضي العتيق بما يتضمنه من خرافة وجهل إذ تزعم آنا أنها تمتلك القدرة على التواصل مع الموتى بتبادل الرسائل والتحدث معهم.
بقى أن نشير إلى أن عنوان الفيلم جاء مجرداً من أداة التعريف «أل» واكتفت المخرجة بكلمة «جسد»، لأن معظم الشخصيات المنتحرة لم يكونوا معروفي الهوية، كانوا مجرد جثث بلا أرواح، كما يمكن اعتبار التنكير أيضا مقصودا لسبب يتعلق بالأبطال الأحياء المعروفين الهوية مثل أولجا أو آنا أو غيرهن من النساء، أو حتى الرجل المحقق، فعندما يتعامل البشر الأحياء مع غيرهم بطريقة لا إنسانية خالية من الروابط العاطفية يبدو الأمر وكأنهم يتعاملون مع جثة من دون روح، أو يتعاملون مع الجسد من دون القدر الذي يستحقه.
شاهد التريللر الخاص بفيلم BODY: