جميل راتب: سمعت اشاعة وفاتى ثلاث مرات وكرسى متحرك منحنى التحدى

 

حاورته فى تونس: انتصار دردير

لم تكن المفاجأة فقط فى ذهاب الفنان الكبير جميل راتب (90 عاما) الى تونس وهو يعانى متاعب صحية اضطرته للبقاء على كرسى متحرك، لكن المفاجأة الأكبر أن يتواجد فى كل فعاليات أيام قرطاج السينمائية، فى حفلى الافتتاح والختام، داخل قاعات السينما لمشاهدة الأفلام رغم زحامها بالجمهور التونسى، ويحضر ندوة يوسف شاهين ويشارك فى افتتاح المعرض الذى ضم صور وأفيشات لأفلام صديقه، ثم يفاجأ بتكريما رئاسيا من تونس، ويداعبه الرئيس ويحادثه بالفرنسية التى يجيدها راتب.

حالة تحدى يعيشها الفنان الكبير مع نفسه ومع المرض، يتحدى نظرات الشفقة التى قد يلمحها فى عيون الناس، يتغاضى عنها ويمضى مبتسما، يقاوم المرض والوحدة، لايرغب فى عزلة يفرضها عليه السن أو ظروفه الصحية، كثيرون ينعزلون فتتضاعف آلامهم، يريد أن يأتنس بالناس والأصدقاء، يبدو فى حالة تصالح مع نفسه ومع الزمن رغم قسوته، فقد عاش حياته متنقلا بين ثلاث محطات مصر وفرنسا وتونس وعند الأخيرة نتوقف أولا.

حين ذهب جميل راتب لحضور أيام قرطاج السينمائية لم يكن يعلم أن تكريما ينتظره وفوجئ بهم يخبرونه ليلة لقاء الرئيس بأنه سيمنحه غدا وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى ضمن كبار الفنانين العرب والتونسيين فى خمسينية قرطاج، كانت سعادته كبيرة جدا خاصة وهو يتذكر اللقاء قائلا: «أصر الرئيس التونسى ان ينزل درجات لاستقبالى، وان يحدثنى عن أدوارى باعتزاز، لقد كان ذلك شرفا كبيرا لى، وكما أشرت التمثيل فن والفن ثقافة، وهذا التكريم لكل فنان عربى».

داعبه الرئيس التونسى الباجى قايد السبسى وهو يقول له «العرب لن يصعدوا الى الهاوية لانهم وصلوا اليها عام 1978، الآن يجب الخروج منها، مشيرا الى فيلم «الصعود الى الهاوية» الذى شارك جميل فى بطولته، ثم يمازحه قائلا: لا فرق كبير بيننا فى السن، وأنت لديك الطاقة والقدرة على العطاء، ولابد أن تواصل أدوارك فى السينما»، ورفع كلامه كثيرا من معنويات الفنان.

كانت المفاجأة أيضا أن يتجول جميل راتب بكرسه المتحرك فى شوارع تونس، والجمهور يلتف حوله فى اعجاب، يصافحه ويقول له بنحبك برشا برشا، أى كثيرا كثيرا، ويلتقط صورا معه، وهو يلبى رغباتهم فى سعادة، كنت معه فى تلك الجولة، حيث استوقفته فتيات صغيرات وشباب ورجال كبار بل وأحد رجال الجيش التونسى، وهم يرحبون به ويلتقطون الصور معه، وظل محتفظا بابتسامته طوال الوقت، ومدير اعماله يدفع بكرسه المتحرك مرة ويتوقف مرات ليمنح الفرصة للجمهور الذى يصافحه، وفى شارع الحبيب بورقيبة، اهم شوارع تونس وأكثرها حيوية ويشبه الشانزليزيه فى باريس، كانت جولتنا، وفى أحد مطاعمه جلسنا نتحدث.

كان من الصعب أن يعتذر جميل راتب عن تلبية دعوة أيام قرطاج السينمائية تحت وطأة المرض خاصة وهى تحتفى بيوبيلها الذهبى، فهو يحب تونس وأهلها، وهو الفنان المصرى الوحيد الذى لعب بطولة ثلاثة أفلام تونسية من أهم أفلامه وهى شيش خان 1991، كش مات 1994، وصيف حلق الوادي 1996، ويجيد راتب التحدث بلهجة تونسية حتى تحسبه مولودا بها.

حديث الحياة والموت

«تونس هى بلدى التانى بعد مصر، لى أصدقاء كثيرين بها، بعضهم مات، لكن تبقى تونس من أحب البلاد الى، وقبل مشاركتى بأفلام فيها قدمت بها مسرحية عطيل فى افتتاح مسرح الحمامات من اخراج على بن عياد وكان مديرا للمسرح القومى وكنت أمثل دور عطيل بالفصحى وهم اعتادوا على تعطيش حرف الجيم لكنى نطقته باللهجة المصرية ووجدت الجمهور يصفق، وهو جمهور يتمتع بثقافة عالية وأفلامهم استفادت من التكنيك الفرنسى لكنها تطرح قضاياهم وتحتفظ بهويتها، وقد جئت هذه المرة لأودع تونس وأصحابى بها، قلت قد تكون هذه آخر مرة أشوفهم».

وجع قلبى وهو يقولها ضاحكا، لكنه واصل حديثا لم أقصده واستطرد قائلا: الموت حقيقة وليس وهما نهرب منه، شخصيا لا اخاف الموت لكنى أخشى المرض.

يتحدث جميل راتب عن الموت وهو مفعم بالحياة، ويعطينا درسا فى الشجاعة والتصالح مع الزمن، وقبل مغادرته تونس يتنازل عن الكرسى حتى يستفيد به مريض آخر، وهو قانع وراضى بكل ما يمر به. حيث يعلق قائلا: فى البداية كنت أضيق بهذا الكرسى وأشعر بالخجل والحرج من أن يرانى الناس وانا على هذا الحال، لكنى لا أحب الاستسلام، خضت حالة تحدى مع نفسى، لقد عشت حياة حافلة بالنجاح والتكريم والأوسمة، نجحت فى باريس، وحصلت على 3 أوسمة مهمة من فرنسا، وكرمت فى بلدى مصر كثيرا ثم هذا التكريم من تونس الحبيبة ومن رئيسها الذى منحنى وسام الاستحقاق، هذا شرف كبير لى.

قصة كفاح ونجاح

باريس التى تصدرت أفيشات أفلامها ومسارحها صورته، ينتمى اليها جميل راتب من ناحية الأم الفرنسية والزوجة أيضا وعاش بها قصة حب لم يعلنها من قبل، ووراء نجاحه فيها قصة كفاح لا يوحى بها مظهره الارستقراطى، لقد عمل شيالا !!.

ويتذكر راتب ذلك قائلا: «واجهتنى ظروفا قاسية حين قطعت أسرتى ارسال اموال لى، كنت قد سافرت لاستكمال دراستى فى القانون بينما التمثيل استحوذ على تماما، وعلم أبى وأمى بذلك فامتنعا عن ارسال فلوس لى واضطررت العمل شيالا، وكومبارسا فى بعض الاعمال الفنية وهذا أفادنى كثيرا كممثل، فقد اقتربت من الأوساط الشعبية فى فرنسا مما جعلنى انظر للحياة بنظرة مختلفة، وأكون قادرا على تجسيد أنماط متباينة من البشر».

باريس أيضا هى التى أحب فيها إمراة ولم يتزوجها، وتزوج أخرى صارت صديقته بعد انفصالهما وقضى اغلب وقته مسافرا اليها، ويستمر في استرسال كلامه: «أحببت ابنة ممثل صديق لى، كانت فى غاية البراءة والجمال واتجهت هى أيضا للتمثيل وخشيت عليها من شدة حبى، لكننا لم نتزوج، ثم تزوجت من ممثلة فرنسية كنا نعمل معا فى المسرح وأصبجت مديرة لأكبر مسارح فرنسا وأخبرتها بحبى القديم والمثير أن من أحببتها ماتت فى حادث سيارة وجاءت زوجتى تواسينى، لكنى ظلمت زوجتى أيضا فقد كانت تريد ان ننجب، وكانت الظروف غير مواتية، وقلت لها ان على ان اترك التمثيل حتى أوفر لابنى حياة معقولة فالممثلين فى فرنسا لكثرتهم يعملون أدوارا ثم يجلسون فى بيوتهم احيانا كثيرة، وقالت زوجتى لن تستطيع ان تترك التمثيل لعمل آخر لانك تحبه، ولم ننجب ولم أندم على ذلك، ومع بقائى فى مصر لفترات أطول انفصلنا بهدوء لكن ظلت علاقتنا قائمة كأصدقاء، وحينما أذهب الى فرنسا نلتقى، لكنى حاليا أقيم بشكل أكبر فى القاهرة ولم اعد احتمل السفر كثيرا».

أدوار القسوة والشر

أول مرة يواجه فيها جميل راتب الكاميرا كانت من خلال الفيلم المصرى «أنا الشرق 1946» وبعد سنوات اكتشفته فرنسا وعاد الى مصر ممثلا محترفا، لكن صورته عند الناس ارتبطت بأدوار القسوة والشر أحيانا، وهى صورة بعيدة تماما عن شخصيته الحقيقية، حيث يقول: «أنا على النقيض من كل أدوارى، لكنى كممثل أحب الأدوار البعيدة عن شخصيتى وأصل معها الى درجة التوحد، ربما كان دورى فى مسلسل «الراية البيضا” من أقرب الشخصيات لطبيعتى لكنى حين أديته شعرت أنى أتفرج على نفسى فى المرآة، عموما أنا لم أكن بطلا وكثيرا ماكنت أؤدى ادوارا ثانوية والأعمال التى لعبت فيها أدوار البطولة كانت معدودة ولم أكن أحصل على أجرا كبيرا، لكنى حققت والحمد لله علاقة أعتز بها مع الجمهور وأذكر أننى كنت أسير منذ سنوات فى الزمالك ووجدت اتوبيسا يتوقف بجانبى وينزل السائق منه ليصافحنى بحرارة ثم يتحرك بالاتوبيس، موقف بسيط لكن يسعدنى ويؤثر فى بشكل كبير حتى يكاد تبكينى، والشعب المصرى بطبيعته طيب وذكى لكن ينقصه الثقافة وأنا مؤمن بقدرته على التحدى بدليل قيامه بثورة يناير وهى ثورة شعبية، عكس الثورة الفرنسية التى قادها الكتاب والمفكرين، وقد أخذت سنوات حتى تحقق أهدافها ولابد أن الثورتين المصرية والتونسية التى قادت الربيع العربى أيضا ستحققان اهدافهما، وقد اهديت تكريمى فى مهرجان دبى قبل سنوات لثوار مصر والربيع العربى».

وفاته 3 مرات

هل سمعت يوما شائعة وفاتك، جميل راتب سمعها ثلاث مرات!، ويتوقف منهيا حواره بهذه الجملة: «تصورى 3 مرات اسمع الخبر وأكذبه بنفسى لاصدقائى ومعارفى، بصراحة أنا خايف لما أموت بجد يقولوا دى اشاعة». يضحك.. حتى أغرورقت عيناه بالدموع.

Exit mobile version