جيم جرموش.. الحياة مثل كلمات قصيدة في فيلمه «باتيرسون»

 

«كان» ـ هدى ابراهيم

ربما يكون من الأصعب على مخرج صنع فيلم لا يقوم على عرض قضية كبرى أو يتناول موضوعا خاصا بسينما المافيات والتشويق والعنف والحروب، من الاصعب بالتأكيد ان يخوض فيلم في الحياة اليومية المتكررة لشخص ويخرج منها الشعر، ففي ذلك تحد اكبر يفرض على القدرة الابداعية وعلى الرؤيا الفنية لأي مخرج. من هنا، تأتي فرادة فيلم مثل «باتيرسون» للمخرج العريق والمنتمي للنادي الحصري والدائم لمهرجان كان، جيم جرموش، المشارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ69.

لا شيء يحدث في الفيلم الذي يتناول حياة سائق الباص «باتيرسون» الذي يعيش في المدينة التي تحمل نفس الاسم، لا شيء غير الحياة اليومية العادية، وكلمات بعض القصائد التي ينظمها بشكل يومي، في المدينة التي عاش فيها الكثير من الشعراء والتي يوجه المخرج تحية لهم بذكر اسمائهم وكتبهم.

يخرج جيم جرموش كما يفعل دائما الشعر من القصيدة ليسكنه في حياة الشخصيات ولحظات يومهم العادية، بدل ان تكون القصيدة في الكلمات. مع الشعر، تصبح الحياة مثل حلم، لا مكان فيها للنزاعات والجدل، وانما للتفاهم والرقة والجمال، تلك كانت حال الزوجين، في الفيلم الذي تدور احداثه في العام 2000، في نيوجرسي، في عالم يخلو من الهواتف النقالة واجهزة التلفزيون والكومبيوتر وفضاءات الانترنت.

«باتيرسون» فيلم فيه الكثير من الامل بالحياة، كثير من التأمل الذي يفرضه الشعر، وكثير من اللطف في السلوكيات، كثير من الرضى ورغبة في الابتعاد عن صخب المدن والعيش في اماكن يحلو فيها العيش، وايضا رغبة بقراءة كتاب «باتيرسون» الذي استوحى المخرج من بعيد سيناريو فيلمه منه، ليكون الطرح بسيطا جدا بعيدا عن اي تعقيدات يمكن ان تعتري الحياة، ومن هذه البساطة بالذات صيغت تلك القصائد القصيرة التي يكتبها باتيرسون.

 ولعله في هذه البساطة تحديدا، يكمن الاساسي في الحياة وفي الوقت، الوقت الذي يمنحه الفيلم مكانة خاصة، فبطل الفيلم حين يستيقظ كل يوم، ينظر طويلا الى ساعته، ويضعها في يده قبل ان يحنو على زوجته لحظات قبل مغادرة السرير.

«باتيرسون»، كما الشخصية يزرع الشعر في اللحظة لتصبح وقتا بالفعل ولتصبح اكثف مما هي عليه في الواقع، لأن الوقت يمر وكذلك الحياة.

والفيلم مختلف تماما عن كل ما يمت بصلة الى السينما الهوليوودية الشائعة، لذلك ايضا يحب مهرجان كان ونقاده هذا المخرج الاميركي المختلف، الذي تعلم حب السينما باكرا من امه التي كانت كما صرح جرموش اكثر من مرة، ناقدة سينمائية.

واختار جرموش الممثل الرائع آدم دريفر، لاداء دور سائق الباص وهو نجم بدأ يتألق في ادوار كبيرة منذ العام 2013، اما لورا زوجته فتؤدي دورها الايرانية – الفرنسية غولشيفته فرحاني، معهم يعيش المشاهد ثمانية أيام فيها الكثير من الصفاء، والوعي باللحظة حيث يحتفى بالحياة في دنيا أقرب الى الجنة، وبقرار من بطليها.

بينما يبدو سائق الباص زميل باتيرسون دائم الشكوى يظهر هو سعيدا راضيا كأنه نظف حياته من المشاكل بقرار شخصي نجح في تثبيته.

والفيلم يمتاز بخاصية عامة لدى جيم جرموش، تبدو ملامحها في اكثر من عمل، فأفلامه تدور دائما في عالم مرتب، أما شخصياته فتمتلك دائما مسحة الحزن الشاعري اللصيقة هذه التي لا تتخلى عنها لتصبح عنصرا ملازما من عناصر اللغة التي يستخدمها جرموش في أعماله السينمائية.

وبعدما هم ان تفتت دفتر الشعر السري الخاص بباتيرسون وراح في الهباء. الشعر ليس في كلمات الدفتر بل في الكلمات التي يكتبها البشر في أسطر الحياة. هذا ما يذكرنا به جرموش في عالم مجنون نسي الشعر ورحابته واستبدله بكثير من العنف.

انها المشاركة العاشرة لهذا المخرج الاميركي الذي يقف على مسافة من السينما الاميركية في مهرجان كان السينمائي، والحاضر بشكل دوري منذ فوزه بالسعفة الذهبية للفيلم القصير «قهوة وسجائر» عام ثلاثة وتسعين وتلاها فوزه باكثر من جائزة في المهرجان كان بينها الجائزة الكبرى عن فيلمه «بروكن فلاور».

فيلم «باتيرسون» مرشح آخر لنيل السعفة هذا العام، في سنة تبدو سخية بافلامها الجيدة بل الرائعة، لكن التجديد فيها يأتي اكثر من النساء المخرجات كما الالمانية مارن آد وفيلمها «توني آدرمان» الأكثر من رائع والذي حظي باجماع قل نظيره في مهرجان كان والبريطانية اندريا ارنولد وفيلمها الجميل «عسل أميركي».

 كلتاهما قدمتا اعمالا اكثر حداثة واكثر ارتباطا بالواقع دون التخلي عن سحر التركيبة والصياغة الفنية وشيء جديد اضافي قد لا يسهل تعريفه. هذا الشيء حاضر اكثر مع الفيلم الالماني الذي ينتقد كيفية تحويل مجتمعات العمل الاوروبية، الانسان الى نوع من مسخ آلي حديث خاضع لبرمجاتها ونسي شيئا اساسيا هائلا اسمه العاطفة.

https://www.youtube.com/watch?v=div6UPJYGvk

Exit mobile version