«سينماتوغراف» ـ متابعات
منذ أن أسست “أكاديمية فنون وعلوم السينما” في عصر هوليوود الصامت، وعلى مدى ما يزيد على تسعة عقود، وهي تسعى إلى تكريم أفضل ما قدمته السينما لمشاهديها، بجوائز الأوسكار في حفلات تجلب المتعة للملايين عبر العالم، هذا بقدر ما تثير الجدل في بعض الأحيان، نتيجة لبعض الاختيارات والممارسات غير المقبولة، ومنها مثلاً فضيحة عام 2017، الناجمة كما يقال، عن تلهي موظف على “تويتر”، وتوصيله المظروف الخطأ، بالتالي الإعلان عن فوز الفيلم الكوميدي الاستعراضي “لا لا لاند” كأفضل فيلم لهذا العام. وبعد صعود المكرمين وتوجيههم الشكر للأكاديمية وأعضائها الموقرين أمام ملايين المشاهدين فوجئوا بكلمات الاعتذار وتصحيح الخطأ بأن الفيلم الفائز هو “ضوء القمر” إخراج باري جنينكز.
شهدت الأوسكار أيضاً مواقف كثيرة مربكة اندمج فيها الفن بالسياسة، كما حدث في رفض مارلون براندو جائزة أفضل ممثل بسبب تعنت هوليوود تجاه الهنود الحمر، ومقاطعة المخرج الإيراني أصغر فرهادي الحفلة اعتراضاً على تعسف ترمب مع المهاجرين. وجاءت صفعة ويل سميث لمقدم العرض كريس روك، قبل أن يتسلم جائزة أفضل ممثل عام 2022، لتعلن عن تغير آخر تعكسه الأوسكار كمرآة مصقولة للتغيرات الثقافية. وها نحن أولاء أمام جدل جديد في شأن الترشيح المفاجئ لأندريا ريسبورو لأفضل ممثلة قبل حلول حفلة عام 2023 في مارس (آذار) الجاري. وهو الوقت الذي وجده الكاتب الأميركي مايكل شولمان مناسباً تماماً لتوقيع كتابه الجديد “حروب الأوسكار: تاريخ هوليوود في الذهب والعرق والدموع”، الصادر حديثاً عن دار هاربر للنشر، وفيه يستعرض المعارك الوحشية في أروقة الفن الجميل ومنافسات النجوم كباراً وصغاراً خلف الكواليس.
أجرى شولمان مقابلات مكثفة مع المطلعين في هوليوود وفحص مراسلات ووثائق نادرة في مكتبة مارغريت هيريك التابعة للأكاديمية، لوضع تاريخ جوائز الأوسكار التي انطلقت من فكرة لويس بي ماير، رئيس شركة “أم جي أم”، وجذبت عدداً كبيراً من المنتجين وموزعي الأفلام، باعتبارها وسيلة جيدة لتلميع صناعة السينما. أقيمت الحفلة الأولى في 15 مايو (أيار) عام 1929، عقب عشاء خاص في فندق هوليوود روزفلت بحضور نحو 270 شخصاً، ولم يستغرق سوى 15 دقيقة. وبعيداً من أخطاء الأظرف المغلقة، كان الجميع يعرفون من هم الفائزون تحديداً، قبل ثلاثة أشهر من توزيع الجوائز، وهي الحفلة الوحيدة للأوسكار التي لم يتم بثها على الإذاعة أو التلفزيون.
يعلق شولمان “ما يذهلني في حفلة الأوسكار الأولى أن هوليوود كانت على أرض مضطربة، حتى منذ البداية. خذ مثلاً فيلم (مغني الجاز) الذي مثل صدوره بداية جديدة في صناعة السينما، وانسحاب السجادة من تحت أقدام السينما الصامتة، هذا الفيلم لم تجرؤ الأكاديمية إلا على منحه جائزة فخرية، لأنها شعرت أنها لا تستطيع منافسة جميع الأفلام المرشحة والتي كانت صامتة ورائجة. وبحلول العام التالي أصبحت لجميع المرشحين أصوات مسموعة”.
يقع كتاب “حروب الأوسكار” لشولمان في 608 صفحات موزعة على أحد عشر فصلاً، كل فصل يغوص في عام أو فئة أو صراع بعينه يمثل نقطة تحول للأكاديمية أو للثقافة في شكل عام. وعلى سبيل المثل المؤامرة على فيلم “المواطن كين” 1941 والخسائر التي تكبدها جراء ذلك، و”قائمة” هوليوود السوداء في الخمسينيات من القرن الماضي، والعداء الذي استحكم بين شركة ميراماكس ودريم ووركس، على أثر الدعاية المغرضة للمخرج والمنتج هارفي واينستن في سباق 1999.
كان واينستن أول من غير طريقة إدارة حملات الأوسكار من مجرد إعلانات تنشر في المجلات التجارية إلى حملات إعلانية، عبر موجات الأثير والصحف والتلفاز. وكان موهوباً بطريقته المثيرة في الإعلان كما في فيلم “المريض الإنجليزي”، وكيف استغل الرواية الأصلية لمايكل أونداتجي في الدعاية، وعقد أمسية كبيرة في مبنى البلدية في مدينة نيويورك مع أشخاص يقرأونها. ودعا فيلم “قدمي اليسرى” وبطله دانيال داي لويس إلى واشنطن، ليعرضه أمام أعضاء مجلس الشيوخ محققاً نتائج ملموسة. أما عن حملته المشينة بهدف ترجيح كفة فيلم “شكسبير عاشقاً” الذي شارك في إنتاجه، حتى إنه راح يروج له بجميع الوسائل الممكنة على حساب “إنقاذ الجندي رايان” لستيفن سبيلبرغ، فقد بلغت حد الإيعاز للصحافيين بأن يكتبوا أن فيلم سبيلبرغ كان جيداً فقط في أول 25 دقيقة. وبحلول الوقت الذي وصل فيه الجميع إلى ليلة الأوسكار يسبقهم الغضب، كان لا يزال هناك اعتقاد أن “ريان” سيفوز بأفضل تصوير، لكن الجائزة ذهبت إلى “شكسبير” وفاز سبيلبرغ بجائزة أفضل مخرج لعام 1999.
يعتقد شولمان أن من الخطأ اعتبار الجوائز مقياساً خالصاً للجدارة الفنية أو القيمة، مشيراً إلى وجود مليون عامل آخر يتعلق بمن يتم ترشيحهم ومن يفوزون. ويرى أن الجهد المبذول للحصول على الترشيح لجائزة الأوسكار لا يختلف كثيراً عن الحملات السياسية “لديك استراتيجيون للحملة وخبراء دعاية وأشخاص يقضون العام بأكمله في العمل على الحملات ووضع الاستراتيجيات ووضع الإعلانات وإدخال الأفلام في مهرجانات، فضلاً عن مختلف الطرق لمناشدة أعضاء معينين في الأكاديمية”.
يتتبع شولمان عبر كتابه لحظات السباق والفوز إلى جانب الخسائر وسقطات الأكاديمية قديماً، المتمثلة في الهستيريا والقوائم السوداء المعادية للشيوعية، وحديثاً مع حركتي #MeToo و#OscarsSoWhite. الأولى نجم عنها طرد واينستين من الأكاديمية على أثر عدد من ادعاءات التحرش والاغتصاب، في ما عرف بفضيحة واينستين وإطلاق مسمى “تأثير واينستين” على أي رجل نافذ في مختلف الصناعات. والثانية #OscarsSoWhite وجدت صداها قبل عام من فضيحة واينستين لا سيما أن جميع المرشحين العشرين في فئة التمثيل خلال عامين على التوالي كانوا من ذوي البشرة البيضاء. وهذا ما جعل هاشتاغ “أبريل راين” يحقق ذيوعاً ويجبر إدارة الأكاديمية على تنويع عضويتها، ودعوة عدد غير مسبوق من الأشخاص الجدد، منهم أفراد من ذوي البشرة السمراء وكثير من النساء والشباب. يرى شولمان أن مثل هذه الحملات أحدثت فرقاً “أعني أن من الأشياء التي لم يتم تقديرها في شأن هذه الإصلاحات هو أن الأكاديمية أصبحت أكثر عالمية. وانعكس ذلك في فوز أفلام مثل (طفيلي) قبل بضع سنوات. وأصبح تقييم الأكاديمية للأفلام أقل تطويقاً بهوليوود كمكان مادي، لكن بالطبع لم يهدأ الجدل”. ونرى ذلك هذا العام مع فئة أفضل ممثلة التي ترشحت لها ريسبورو بطلة فيلم “إلى ليزلي”، وهو فيلم عن أم عزباء تفوز باليانصيب لكنها تخسر حياتها بأكملها.
جاء ترشيح ريسبورو بعد حملة على وسائل التواصل الاجتماعي قادها ممثلون بارزون، مثل إدوارد نورتون وجنيفر أنيستون. في الوقت الذي لم يتم ترشيح ممثلتين سمراوين كان يعتقد أنهما متنافستان على الأوسكار، فيولا ديفيس في فيلم “الملك المرأة” ودانييل ديدويلر في فيلم “تل” عن واقعة قتل واختطاف إيميت تل. ومع تصاعد الغضب أعلنت الأكاديمية أنها ستجري “مراجعة لإجراءات الحملة حول المرشحين لهذا العام”، ولكن عاد السؤال على لسان شولمان حول نصيب ممثلة سوداء مثل دانييل ديدويلر بشبكة من الدعم داخل صناعة السينما مقارنة بريسبورو.
في حوار معه يعترف شولمان أن “هذه السنة رائعة بالنسبة إلى المرشحين الآسيويين: ميشيل يوه وهونغ تشاو، ومع ذلك لم يتم ترشيح ممثلة ملونة حتى الآن، مع الأخذ في الاعتبار عدم فوز أي واحدة منذ أن فازت هالي بيري بالجائزة الأولى والوحيدة في عام 2002. ولم يتم كذلك ترشيح أي مخرجة هذا العام”، لذلك يعتقد أن هذه المشكلة هي من المشكلات التي لم يتم حلها بعد. إنها من نوع المعارك المستمرة التي تؤكد أن الجسر الذهبي إلى حفلة توزيع جوائز الأوسكار مرصوف دائماً بالدماء والعرق والدموع.