«فينيسيا» ـ صفاء الصالح
في فيلمه الثاني “حيوانات ليلية ـ Nocturnal Animals” الذي افتتحت عروضه عالميا في مهرجان فينيسيا السينمائي، يثبت مصمم الأزياء الأمريكي توم فورد أقدامه في عالم السينما، في محاولة حظيت باحتفاء نقدي وكشفت عن موهبة في فهم خصوصيات هذا الفن الشامل واتقان عناصره التعبيرية وأدواته. والأهم من ذلك طبيعة التعامل مع الزمن فيه، وهو القادم من فن آخر يقوم على الاستعراض وللزمن فيه طبيعة مختلفة.
وتأتي خطوة فورد هذه بعد سبع سنوات من عرض محاولته الأولى في المهرجان ذاته “رجل أعزب” التي لفتت الانظار الى موهبته السينمائية في عام 2009 وكانت من بطولة كولين فيرث وجوليان مور.
استند الفيلم إلى رواية “توني وسوزان” 1993 لأوستن رايت، الروائي الأمريكي والناقد والباحث الأكاديمي، الذي نتذكر له كتابه المعروف عن القصة القصيرة الأمريكية في العشرينيات والانثولوجيا التي أعدها لفن القصة القصيرة في أمريكا.
ويدرك فورد هذا المستوى الزماني بالغ التعقيد الذي تتوفر عليه السينما بين الفنون الأخرى، من هنا يقدم لنا مستويات زمنية متعددة تتداخل مع بعضها البعض، منها ماهو واقعي وما هو سيكولوجي، كما تتداخل مستويات الخيال والواقع في سرده المنتمي كليا إلى ما نسمية بالميتا- سرد، أو السرد الشارح، حيث يقدم الفن حكايته وأليات الخطاب الفني التي يقدمها فيها أمام مشاهده.
وهكذا نرى في هذه الدراما التي تستعير الكثير من نمط الدراما البوليسية الغامضة السائدة في “الفيلم نوار”، أنها تقدم مستويات متعددة من مشاعر الانتقام تتوزع بين الماضي والحاضر.
ويستثمر فورد عالم الخيال، وهو هنا رواية بوليسية أرسلها زوج البطلة السابق ليقدم لنا صورة مفرطة في العنف تتمثلها البطلة سايكولوجيا عند قراءتها للرواية التي يجسد المخرج أحداثها أمام المشاهدين كما تتجلى في ذهن بطلته حيث تتخيل زوجها السابق (وهو الروائي نفسه) بطلا لاحداثها.
ويفتتح فورد فيلمه بمشهد على مستوى عال من البراعة الفنية، ويمكن فصله عن الفيلم ليقدم كفيديو آرت في معرض فني، حيث يقدم صورة معاكسة لعالم عارضات الأزياء الرشيقات الذي جاء منه، لمجموعة من النساء المفرطات في السمنة وهن يرقصن وتتلاطم كتلهن اللحمية وهن يؤدين حركات حسية أقرب إلى راقصات (البورنو) كجزء من معرض فني في الغاليري الذي تديره بطلته سوزان (الممثلة والمغنية ايمي آدامز)، التي يبدو أنها إنسانة ناجحة ومهتمة بتقديم تلك الجماليات الصادمة في المجتمع البرجوازي المبهرج الذي تعيش فيه لوس انجلوس.
ويعكس خيارها الفني هذا رغباتها السابقة وتمردها على زيف هذا الواقع في الفن، على الرغم من استسلامها له في الواقع. فهي زوجة لرجل أعمال وسيم وناجح (أرمي هَامر)، يبدو أن جزءا من نجاحها يعتمد على ما يوفره لها من ثراء مادي، وان كانت تبدو غير سعيدة في حياتها معه.
كما تلمح إلى حياتها الماضية في تكساس مع زوجها السابق ادوارد (الممثل جيك جيلينهل الذي يؤدي شخصيتين ادوارد في الفيلم وتوني في الرواية التي يقدمها) الشاب المثالي الطامح لأن يكون كاتبا روائيا، والذي تحول الفوارق الطبقية بينهما وضغوطات امها وما تراه في شخصيته من هشاشة وحلمية إلى أن تهجره وتعود الى العالم البرجوازي الذي تعيش فيه باختيارها (والكر) الزوج الغني الذي تنتقل معه للعيش في لوس انجليس.
ويعود هذا الماضي بقوة مع تلقيها طرد بريدي فيه رواية بوليسية ممتلئة بمواقف العنف ومشاعر الانتقام كتبها توني، ويطلب رأيها فيها، ويبدو أن ارسالها محاولة منه ليثبت لها عكس ما اتهمته به من هشاشه وعدم قدرة على ان يكون كاتبا روائيا ناجحا.
وهنا تبدأ لعبة فورد في استعارة الزمن السيكولوجي وتماهي بطلته مع احداث الرواية ليقدم فيلما داخل فيلم تتجسد فيه الاحداث مع قراءة بطلته للرواية التي يجسد احداثها للمشاهدين من وجهة نظرها.
فتتخيل سوزان أن بطل الرواية (توني) في صورة زوجها السابق نفسه الذي يأخذ زوجته (الممثلة آيلا فيشر) التي تشبهها كثيرا وابنته هيلين (ايلي بامبر) في رحلة، يواجهون فيها أحداثا مرعبة في منطقة نائية مع عصابة يقودها راي (آرون تايلور- جونسون) تنتهي باغتصاب الزوجة والفتاة وقتلهما، لتبدأ محاولة الزوج في البحث عن العصابة والانتقام منها بمساعدة المحقق العنيف (الممثل مايكل شانون).
وتحمل الرواية عنوان “حيوانات ليلية” ويأخذ الفيلم عنوانه منها، وتدور كليا على ثيمة الانتقام وسط أجواء عنف مبالغ بها، ولكن تمثل سوزان لها في عملية قراءتها يجعلنا نظن وكأنها تجربة مرت بها في حياتها السابقة، حيث يصبح تمثلها سيكولوجيا مدخلا للمزواجة بين الخيال والواقع، وصورة لانتقام آخر يسعى إليه زوجها السابق من اتهامه بالهشاشة وانكار موهبته الروائية.
وإلى جانب عنايته الواضحة بالعناصر البصرية في فيلمه، اثبت فورد قدرة واضحة على إدارة ممثليه الذين قدموا أداء مميزا لاسيما إيمي آدامز (جائزتا غولدن غلوب عن فيلمي “احتيال امريكي” و “عيون واسعة” وخمسة ترشيحات للأوسكار) وجيك جيلينهل (ترشح للاوسكار عن فيلم “جبل بروكباك” لأنغ لي) في الدورين الرئيسين، ومايكل شانون في دور المحقق من تكساس، وبدا تايلور جونسون مكررا لصورة رجل العصابة غريب الأطوار والعنيف والنزق التي نراها في الغالب في أفلام الجريمة الأمريكية.
وأبدع مدير التصوير الايرلندي شيموس مغارفي (ترشح للأوسكار مرتين عن “آنا كارنينا” و “أتونمينت”) في تجسيد عوالم فورد في اللعب على هذا التناقض بين الخيال والواقع وبين العوالم البرجوازية في لوس انجلوس.
فقد صور مغارفي تلك العوالم بعناية شديدة معتنيا بكل تفاصيل الإنارة وبناء المشهد الصوري، وهي مشاهد داخلية في الغالب صورت بأقل ما يمكن من حركة الكاميرا ما يعكس سكونية الحياة ورتابتها بل وجمالها الاصطناعي، مقابل مشاهد الطبيعة القاسية وبراري تكساس وحركات الكاميرا السريعة والتصوير الليلي في المواقع الطبيعية في تصوير أحداث الرواية التي تقرأها بطلة الفيلم.
لقد نجح فورد الفنان الأنيق روحا ومنتجا والليبرالي الحر فكرا (نذكر له هنا موقفه من غزو العراق وإعلانه انه يخجل من كونه امريكيا اثر ذلك) في أن يقدم فيلما مفعما بالحيوية والجمال، وبفهم العلاقة بين الواقعي والأدبي التخيلي، وقدرة السينما على تجسيد الخيال بمفردات الواقع نفسه.