«حُرة».. فيلم كلاسيكي أنيق عن الرضا وعدمه

أحمد شوقي يكتب لـ «سينماتوغراف»:

خلال الدورة الثلاثين في العام الماضي، كان الفيلم التونسي «بستاردو» لنجيب بلقاضي هو الحصان الأسود لمسابقة البحر المتوسط في مهرجان الأسكندرية السينمائي، والتي توّج بجائزة أحسن فيلم في نهايتها، بجرأته وغرابته والعالم الذي يأخذ المشاهد إليه. هذا العام، تتواجد السينما التونسية في نفس المسابقة بفيلم جديد هو «حُرة» للمخرج معز كمّون، والذي يطمح لتكرار إنجاز «بستاردو» وجائزته.

على العكس من صاحب جائزة العام الماضي، لا يسعى فيلم كمّون لأي غرابة، بل تدور أحداثه في حياة الواقع المعاصر، وإن كانت واقعية ذات حس كلاسيكي أنيق، تميل لتحييد المشكلات الاقتصادية والطبقية، من أجل التركيز على الأزمات العاطفية والنفسية للشخصيات. أي أنه فيلم دراما اجتماعية وعاطفية تدور في عالم يشبه الواقع، لكنه يختلف عنه في تمتعه بالكثير من الأناقة واعتماد صراعاته على قطبية الرضا وعدم الرضا، وكلاهما شعور أعمق من اقتصار رغبات الشخصيات وحاجاتهم على أمور مادية: طعام أو جنس أو أي شيء آخر.

العنوان «حُرة» يبدو وكأنه يشير للبطلة فاطمة ناصر، التي تلعب بتمكن دور علياء، زوجة تعاني من عنف زوجها الارتدادي بسبب عجزه الجنسي معها. لكن العنوان يشير في الحقيقة لجميع الشخصيات النسائية في الفيلم، فكلها تحاول بشكل ما أن تنتزع حريتها على المستوى النفسي، وتتحرر من قيد قوة خارجية ـ صاحبها رجل غالبا ـ تحاول أن تسلبها إياها.

لاحظ هنا أن الأمر يقوم على أسباب مادية «عجز الزوج وعنفه»، لكنها في الواقع مجرد تفاصيل لا أكثر، أو بالأحرى هي أعراض لمرض عنوانه عدم الرضا. الزوجة غير مشبعة عاطفياً قبل إشباعها الجسدي، والزوج (جمال ساسي) ورغم عجزه يدخل علاقة مع امرأة أخرى، يرتوي فيها من مشاعر صار لا يجدها مع زوجته. الفيلم هنا لا يساوي بين الكفتين، ففي النهاية خيانة علياء هي رد فعل وليست فعلاً مثل زوجها، لكن وإذا ما قفزنا على الأحكام ومن المخطئ والمصيب، فستجد أن كل الشخصيات تحاول البحث عن الرضا المفقود.

علياء وزوجها كلاهما يشبه كريم (أحمد القاسمي)، الشاب الذي يدخل علاقة سرية لكن عدم رضاه عنها يوقعه في حب علياء فيحاول إغواءها، وهو أيضا يشبه والدته جميلة (سامية رحيم) التي تؤمن بأنها شيوعية، بينما يكتفي التطبيق العملي لهذا الانتماء بجلوسها لمشاهدة خطابات ستالين على شاشة منزلها الأرستقراطي الفخم! شعور جميلة هي الأخرى بعدم الرضا هي ما يدفعها لتفتيش دفاتر الماضي، بحثا عن علاقة تعيد لها الاتزان.

التخطيط العام لمسار الفيلم إذن ذكي ومناسب للطرح، يحتوي على تفاصيل ذكية مثل فيلم شقيقة علياء بالتدريب على رياضة قتالية، ودفع علياء لها كي تكون أقوى وأشرس وكأنها تريد أن تنتقم لها من العالم. كذلك اختيار صاحب المقهى (لطفي بندقة)، والذي لا يمانع أن يسهر سهرة لها طابع حسي مع فتاة، لكنه يرفض أن يقوم آخر بسهرة من نفس النوع، في صورة أخرى للتناقض وعدم الرضا عن الذات وأفعالها.

لكن الفكرة الذكية والتخطيط الدرامي وأناقة الصورة ليست كل شيء، فهناك عيوب واضحة لم يستطع الفيلم التخلص منها، على رأسها رتابة الإيقاع وتكرار المشاعر والانفعالات، سواء لدى كل شخصية، أو بين الشخصيات المختلفة. وكذلك خلو الفيلم من أي تفصيلة أصيلة، فبالرغم من العمل الواضح من قبل معز كمون على صياغة بناء درامي متماسك وذي معنى، إلا أنه لم يبذل نفس الجهد في أن يحمل ولو خط واحد من هذا البناء ما يدهش الجمهور بما لم يشاهده من قبل.

لكن يبقى فيلم «حُرة» تجربة جيدة إجمالاً، فيه أداء تمثيلي جيد ومشاهد مرسومة بجمالية مصدرها الأساسي اختيار مواقع التصوير، وفيه فكرة ذكية ومهمة حتى وإن كانت تحتاج للمزيد.

Exit mobile version