إنتاج صيني أسباني في برنامج استعادي بكليرمون فيران
«سينماتوغراف»: أمـل الجمل – فرنسا- كليرمون
فتاة شابة كانت تبدو لي وكأنها لاتزال لم تتجاوز سنوات المراهقة بعد. ترتدي زيا لونه يستمد شيئا من ألوان السماء، على الحدود بين درجتي المووف الفاتح واللبني، وفوق شعرها الطويل المُسدل المعقود ديل حصان استقر كاب برتقالي اللون، بينما تتشح ملامح وجهها الآسيوي بتعبيرات الجد والشجن. كانت تجلس على ماكينة للخياطة في مصنع عملاق. هى في مقدمة الكادر بينما في الخلفية أشباح نساء آخريات يتوسطهن رئيس للعمال. لا أدري لماذا جذبتني تلك اللقطة الفوتغرافية وأنا أقلب صفحات كاتالوج مهرجان كليرمون فيران للفيلم القصير الذي عقدت دورته السابعة والثلاثين في الفترة (30 يناير – 7 فبراير 2015) والذي استقبل ما يقترب من ثمانية آلاف فيلم عرض منها نحو ستمائة فيلم قصير متنوع ما بين روائي ووثائقي وتحريك بكافة أنواعها الخالصة أو الممتزجة أو التجريبية.
شيء ما في ملامح تلك الفتاة المستحوذة على مقدمة الكادر ظل يأسرني. رفعت عيني لأقرأ العنوان «خذني إلى القمر». التباين بين شاعرية العنوان وبين الأحساس التي تبثها الصورة عن الجهد الشاق وقسوة الحياة جعلتني أقرر أن يكون فيلم «خذني إلى القمر» واحدا من بين مشاهداتي.
اعرضه ثانية
«خدني للقمر» – الطريق للبيت – 10 دقائق – السيد لي – الحاضر – الطابق العلوي – عشرون دولار – فيديو منزلي – ضرير – 6 مارس – الحصان، كانت بعض أسماء الأفلام التي بلغت 29 فيلماً قصيراً ضمها عنوان أكبر «ترويض التنين» والذي خصص لقسم العروض الاستعادية – Retrospective – لهذه الدورة أن يحتفي بالصين التي تمتلك أكثر من 13 ألف شاشة عرض، وتنتج أكثر من خمسمائة فيلم روائي طويل كل عام. يتميز كليرمون فيران بأنه يقسم العروض الاستعادية إلى جزئين، الأول يحتفي بالسينما في أحد دول العالم، أما الثاني فيختار «تيمة» أو موضوع ويعرض مجموعة من أهم الأفلام التي تناولته، وكانت تيمة هذا العام «الدراجات» بما لها من دلالات تعبيرية أغوت الأدباء والمبدعين بالكتابة عنها فقام منظموا المهرجان بعرض 24 فيلما بدأت بشريط للأخوين لوميير – أوجست ولويز لومير – «رحيل راكبي الدراجات» الذي أنتج عام 1896.
«خذني للقمر»
عنوان الفيلم مستمد من أغنية رقيقة نسمع بعض مقاطعها أثناء سرد الحكاية الوثائقية التي تبلغ مدتها 15 ق، وأخرجها كل من أوريول مارتينز، وإنريك ريبز، وإنتاج صيني أسباني مشترك 2014. أبطالها الريئسيين ثلاثة أشخاص تجمع بينهم الأماكن والأحلام وشمس الإرادة. تأتي تلك الفتاة العاملة داخل مصنع الملابس في مقدمتهم إذ تبدأ وتنتهي بها الحكاية، ثم رجل خمسيني مطرب، ورجل آخر يعمل في كي الملابس في ذلك االمصنع. وأثناء ذلك تنتقل الكاميرا بين ماكينات الحياكة داخل المصنع وبين صفوف النساء داخل المطعم في مكان العمل، بين الشوارع وبين صالات للغناء وآخرى لرقص الباليه، بين بيوت نظيفة وملاعب رياضية للأطفال الناشئيين، بين أحلام قديمة لم تتحقق وبين أحلام مستقبلية تسعى للتحقق منطلقة من واقع يسعى أبطاله أن تكون أرضه مستقرة.
تبدأ الفتاة الشابة التي هاجرت من شنغهاي لمقر عملها الحكي قائلة: «وأنا صغيرة لم يكن لدي أحلام، لكني أعرف أناس أخذوا والديهم في رحلة حول العالم، كنت فقط أرغب في أن أدرس بجد، وأن ألتحق بالجامعة. » بعدها لاتحكي الفتاة عن ماذا قد حدث لها، فاللقطات التي بدأ بها الفيلم لها داخل المصنع أبلغ تعبيراً للكشف عن كيف انتهى بها الحال، لكن مهلاً،، فتلك ليست نهايتها المصيرية، إنها الآن تصنع لنفسها قدرا آخر. تقول: أحيانا وأنا أعمل على الماكينة أفكر في أشياء. ليلة أمس كنت في قاعة الرقص ولم أكن قادرة على تحديد بعض الخطوات كيف أقوم بها بشكل صحيح، فمنذ كنت صغيرة كنت أرغب في تعلم الرقص، لكن أبداً لم تتاح لي الفرصة. الآن الفرصة متاحة وأريد ألا أضيعها.
ومن إحدى قاعات الرقص والاحتفال يأتينا صوت رجل يقول بأسلوب سردي: «اسمي كيان أنهوا، عمري ٥٠ عاما، كان حلمي أن أبني فضاءاً نموذجياً للعمل، مكان يتيح للموظفين أن يكونوا سعداء، فبه أستطيع أن أغذي روحي وأرواح العمال،» بعدها تنطلق أغنية «خدني للقمر» احتفالا بأعياد الكريسماس في أجواء يتجلى فيها بابا نويل. ثم قرب نهاية الشريط الوثائقي القصير نستمع إلى تلك الكلمات التي بدأ بها هذا الرجل وهو يُغنيها بصوت عذب مفعم بالأمل.
أما الشخص الثالث فهو أحد العمال في المصنع يقوم بكي الملابس. يحكي عن حلم ابنه في أن يصبح طياراً، ويحكي عن حلمه هو لابنه بأن يحصل على الماجستير وأن يسافر إلى الخارج، نراه وهو يصطحبه من المدرسة، يسير بصحبته في الشارع، يعد له الطعام، ينظف السمك ويقليه، بينما الابن يتندر من تكرار الطعام ذاته، ثم ينظف الأب بيته قبل أن يصطحبه إلى صالة الرياضة، لا يخفي هواجسه وتفكيره المستمر في ذلك اليوم الذي يقبض فيه مرتبه، وتخطيطه لأفضل طريقه لإنفاقه. في صالة الرياضة نراهم كيف يتدربون على بناء هرمي مرتفع من أجساد الصغار، «أهم شيء هو تعلم القاعدة الأساسية. أن يتحد الناس، إذا لم يكن عندك قاعدة صلبة لن يكون هنا استقرار لمن هم في الأعلى، سيكونون في خطر دائم. ابني هناك، فوق، وأنا في القاع، مع ذلك ليس لدي مشكلة في أن أحتمله، أحيانا أخشى عليه لكني أطمئن نفسي بأنه سيصبح فوق، في الأعلى ويعوض سنوات الشقاء، ويُصبح مستقبله وحياته أفضل من حياتي. »
تتهادي موسيقى الرقص في القاعة تجمع الأبطال الثلاثة وسط آخرين، تتنوع الموسيقى بتنوع الأطياف البشرية، مرات كلاسيكية، رومانسية، وأحيانا شبابية صاخبة، الجميع يرقص، يحتفل بعد أن ارتدى أجمل الثياب، وبعد أن تم تزيين عربة بابا نويل. يطول الاحتفال وفي النهاية تمتزج كلمات «خذني للقمر» مع صوت الماكينات في المصنع، إلى أن تختفي الموسيقى تماما ويسيطر الواقع الشاق لكن الصورة تقول شيئاً متفائلاً فتلك الفتاة الشابة التي بدأ بها الفيلم وهى تقوم بحياكة ملابس سوداء بوجه عبوس مثقل بالحزن ها هى الآن بوجه مبتسم يكسوه التفائل الذي لا يمكن فصله عن لون الأكلادور الوردي الذي اصطبغت به أظافرها والذي يوضحه لون الملابس البيضاء التي ترقص بين أناملها الرشيقة.
شاهد العرض الدعائي لفيلم «خذني إلى القمر»: