فيلم “أخصر يابس” سمعنا به قبل أن نشاهده. وتم عرضه في مهرجانات سينمائية أوروبية وعربية وحصل علي جوائز عديدة ولم يسمع عنه أو يراه الجمهور المصري!.
ربما شاهد بعض الناس أبطال هذا العمل في التليفزيون من خلال إحد البرامج في سياق الترويج للفيلم والمفارقة أنه حين عرض منذ أيام قليلة في دور عرض محدودة هنا في القاهرة ومنها دار “زاوية” الملحقة بسينما أوديون في وسط المدينة “القاهرة”. لم يكن الحضور يتجاوز أصابع اليدين.
وأستطيع أن أكرر نفس هذه المقدمة مستخدمة نفس الكلمات عندما أتناول فيلم آخر ينتمي لنفس هذه النوعية الخاصة جداً ويشبهه كثيراً وأعني فيلم “الخروج للنهار” الذي أنتج منذ سنوات ولم يره كثيرون والفيلم حصل بدوره علي جوائز عديدة في المهرجانات التي ترحب بهذه النوعية والتي لا يعجب بها الجمهور المحلي دافع التذكرة إلا في نطاق ضيق للغاية. فهذه التجارب لا تجد في الأغلب الموزع التقليدي الحريص علي المكسب وعلي أفلام جماهيرية ترضي الذوق العام وليس “الخاصة” من المثقفين المتذوقين للفيلم الذي يعبر عن مفهوم مختلف لدور ووظيفة الفيلم.
وهذا النوع من الأفلام الخاصة المعبرة عن ثقافة وتوجه صناعها وتخضع لطرق انتاج مستقلة اعتدنا أن نطلق عليها “أفلام مهرجانات” والتسمية ليست بعيدة عن الواقع وان ازعجت أصحاب هذه التجارب أنفسهم ونفرت في نفس الوقت المنتمين للتيار الرئيسي من المنتجين المسيطرين علي مقدرات هذه الصناعة الوطنية المؤثرة.
التشابه الكبير
والفيلمان “أخضر يابس.. والخروج للنهار” الأول للمخرج محمد حماد. والثاني للمخرجة هالة لطفي تجمع بينهما خصائص فنية وانتاجية مشتركة ترتبط بظروف صانع الفيلم وهواه الاجتماعي وأسلوبه في التعبير وبالطبع ثقافته التي تتحكم في اختياراته للشخصيات والبيئة التي يريد التعبير عنها وانحيازه الاصيل للكيانات التي يعبر عنها.
بطلة فيلم “أخضر يابس” شابة تجاوزت الثلاثين اسمها “إيمان” تعمل في محل للحلويات وتعيش مع شقيقتها الصغري “نهي” في شقة متواضعة الاختان يتيمتان تواجهان حياة جافة عاطفياً ومادياً وأسرياً حيث لا تواصل مع الأعمام ولا تعاطف حين تحتاج الاخت الكبري إلي وجود أي منهما لحضور خطوبة الصغري.. و”إيمان” إنسانة متدينة. مهذبة. محجبة. ملتزمة بتقاليد المجتمع وبالطبقة المتوسطة الدنيا التي ننتمي إليها خصوصاً في هذه المرحلة من التراجع الاقتصادي والثقافي.
الفيلم بلا أحداث تقريباً. وإنما تكرار لحوح وممل لتفاصيل الحياة اليومية المتشابهة سواء داخل البيت أو في الشارع أثناء ذهابها للعمل أو داخل محل الحلوي يقطع هذا الروتين الكئيب زيارة واحدة لمنزل العم الأكبر الذي يتهرب من مسئولية الحضور لمساندة الشقيقتين وزيارة أخري لعم ثان جاء في رحلة سريعة من البلد العربي الذي يعمل فيه ثم ثالثة لعم عاجز ومريض يعيش مع ابنه الوحيد فلم يتمكن من الحضور.
هذه الزيارات المقتضبة والقصيرة لم تحقق الغرض منها بسبب العزوف أو ظروف المرض!!
و”إيمان” لديها أيضا مشكلة صحية ليست بالخطورة التي كان الطبيب يتوقعها ولكنها تشير إلي عجزها عن الإنجاب في حالة الزواج الأمر الذي يدفع بها إلي منتهي الاحباط واليأس ويدفعها إلي رد فعل غريب وغير محتمل. ألا وهو فض عذريتها بيديها “!!” ذلك لان الحياة مجدبة ولا أمل محتمل في انفراجها.
“إيمان” بطلة “أخضر يابس” تربي أقاصيص نبات الصبار في بلكونتها وترويها بانتظام وكأنها تستجدي منها القدرة علي التحمل ودوام الاخضرار و”إيمان” وهي في طريقها إلي الطبيب عند بداية الفيلم كانت تأمل أن يكون انقطاع العادة الشهرية لا يحمل مؤشراً خطيراً. انه فقط وكما يتضح مع نهاية الفيلم يشير إلي شيخوخة مبكرة وان بدت مؤلمة وليست محتملة.
وتتشابه “إيمان” مع “سعاد” بطلة “الخروج للنهار” ابنة الممرضة الكادحة والاب العاجز الفاقد للذاكرة والذي يحتاج إلي تمريض يومي مضن. الأمر الذي يفرض علي الام والابنة أن يتناوبا علي تمريضه إلي جانب أعمالهما.
والاثنتان إذن تعيشان ظروفاً نفسية واقتصادية ضاغطة ويتحملان حياة خالية من البهجة أقرب إلي الكآبة وبلا أمل كبير فيما يحمله الغد.
والاثنتان تصلان إلي نهاية النفق من دون “ضوء” ينبيء عن انفراج ذاتي أو مجتمعي موحش والاثنتان تعيشان في “مدينة” لا تبدو كريمة أبداً والاثنتان تجدان في “الدين” وزيارة الاضرحة سلوي أو ملاذاً من قسوة الحاضر.. والاثنتان تصطدمان بالجفاف العاطفي والفشل في امكانية الزواج وتعيش كل واحدة يوم بيوم. لا يخفف من ضغوط الحاضر إلا أغنية لأم كلثوم أو كلمة طيبة من صاحب العمل الذي تعمل به “إيمان”.
جماليات الفقر
في هذا المحيط البائس اجتماعياً ومادياً وعاطفياً يتكيء صانع الفيلم من أجل تمريره إلي المتلقي علي عنصر المصداقية والمعايشة الحميمة لظروف الشخصيات الصعبة والجافة للتعبير عنها بنفس الاخلاص والصدق كأناس حقيقيين وليسوا ممثلين يؤدون أدواراً أمام الكاميرا.
ومن أجل تحقيق ذلك يعتمد المخرج علي أناس يقفون أمام الكاميرا لأول مرة ليسوا محترفين وليست مصادفة أن يعتمد مخرج “أخضر يابس” ومخرجة “الخروج للنهار” وكما نري هناك تشابها في دلالة العناوين المختارة.. أقول إن يعتمد المخرجان علي نفر من أقاربه لأداء الادوار الرئيسية وإلي أماكن تصوير قريبة جداً من الأماكن التي تسكن فيها هذه الشخصيات في الواقع. والديكور “الشقة” في الحالتين يعكس بإخلاص ودقة الحالة الاجتماعية للأسرتين. وكذلك يعكس ظروف كل أسرة إذا خرجنا من حالة معيشية صعبة إلي حالة أكثر يسراً في حالة “أخضر يابس” حيث يعيش “العم”.
نلحظ أيضا عفوية الحوار والأداء الطبيعي ودقة التصوير الجامع لتفاصيل صغيرة كثيرة في اللقطة أو المشهد الواحد “مشهد الاتوبيس” في “الخروج للنهار” والمترو في الفيلم الثاني. والخلفية الكاشفة لمستوي الحي والحارة والبناية التي تسكن فيها الشخصيات.
وكذلك نلحظ في العملين الاعتماد علي اضاءة طبيعية في معظم الأحوال وعلي مؤثرات من مصادر معروفة “الراديو. ضجيج الشارع أصوات من خارج الصورة”.
ويعتمد المصور في العملين علي اللقطات الطويلة المتمهلة بايقاع يوحي بالملل لمتفرج معتاد علي أفلام الاكشن والإثارة والتشويق. ففي هذه التجارب لا يوجد اكشن ولا إثارة ولا تشويق وانما تأمل بطيء لحالات إنسانية تعافر من أجل البقاء وتقاوم شح الحياة بقدر المستطاع من تحمل.
وربما ولدت “الإثارة” في مثل هذه التجارب من شجاعة صناع الفيلم عند اقتحام مناطق كابية في الحياة الانسانية واختيارهم لنماذج خالية من أي جمال اللهم قدرتهم علي العطاء وتحملهم المسئولية ومحاولتهم الخروج إلي “النهار” أو توليد الأخضر من اليابس. والانحناء دون تسليم للأقدار وللظروف التي جعلتهم من “المظاليم” تحت وطأة ظروف ليسوا صانعيها وليست إنسانية.
وبرغم عدم احترافية الممثلين الا انهم استطاعوا في العملين أن يقنعونا بكونهم شخصيات من لحم ودم. وأناس لهم ما لهم وعليهم ما عليهم ولكنهم لم يخسروا أنفسهم في معارك الحياة التي فرضت عليهم..
سينما لا تبهج
من الأمور الطبيعية أن الجمهور المعتاد علي مشاهدة الأفلام في دور العرض التجارية لا يسعي لرؤية مثل هذه الأعمال لأنه يدفع ثمن التذكرة في مقابل أن يحصل علي جرعة مستساغة من الترفيه الذي إعتاده أو يتوقعه. ولا يعني ذلك أنه يرفض كل التجارب التي لا تصب في التيار السائد. فهناك الكثير منها حقق نجاحا جماهيريا كبيرا. ولا يعني أنه يلفظ الشخصيات التي تشبهه في الحياة الواقعية لأنه تفاعل مع الكثير منها في أفلام امتلكت القدرة علي الإمتاع حتي وهي تعالج مظاهر القسوة في الحياة والظروف الصعبة التي تناولتها هذه الأفلام التي تبعث علي الكآبة وتثير الدهشة لدي “الآخر” المفتون بالغرابة والفرجة علي “المسحوقين” في بلدان العالم الثالث.
ومن هنا الإعجاب والجوائز التي تحصل عليها هذه الأفلام الخالية من “البهجة”.. أو الكئيبة بالأحري والتي تُشاهد لمرة واحدة في الأغلب الا اذا كان المطلوب دراسة عنها. فالسينما التي لا تبهج ولا تمنح طاقة إيجابية حتي وهي تعالج أوجاع الناس لا يمكن أن تكون جماهيرية. ولن تحقق اجتماعيا “الثورة” والدور الذي ينشده صناع هذه الأعمال. ولن تحقق في نفس الوقت طفرة فنية رغم اعتمادها بالكامل علي التمويل الذاتي ورغم حصولها علي كم من الجوائر.