انتهي عرض الفيلم ولم تنته زحمة الخواطر التي أثارها طوال مدة عرضه. خواطر سلبية – بالتأكيد – ومن بينها أسئلة نطرحها نحن نقاد السينما مراراً وتكراراً مثلما يطرحها الجمهور أحياناً بعد الفرجة علي التجارب السينمائية الرديئة التي تأخذ من الرصيد المعنوي للمتفرج بدلاً من أن تضيف إليه من خلال المادة الترفيهية التي يتضمنها “رقص – طرب – فكاهة”. ولكن حتي هذه العناصر نفسها أصبحت مثيرة للنكد ولا تستطيع أن تكسر ردود الفعل السلبية التي يخرج بها المتفرج بعد الانتهاء من الفرجة بسبب ابتذالها وتهالكها.
ومن الأسئلة التي أثارها الفيلم: مَنْ من “الجمهور” مازال يتسلي بمشاهد المرأة الراقصة التي تبالغ كثيراً في الكشف عن لحمها معتقدة أن “مفاتنها” قادرة علي غواية ذوي الشهوات البدائية. أيضا الأغنية التي جاءت وسط هذا السياق القاتم ربما يكون تأثيرها أفضل خارج هذه الحبكة الملفقة المحرومة من المصداقية والتي تتناول مادة مكررة لم تعد قادرة علي إثارة الاهتمام.
سؤال آخر: ألا لهذا السيل من الأفلام الهابطة أن يتوقف؟ بالتأكيد سوف يتوقف بعد انصراف الجمهور وانعدام العائد ومن ثم توقف القنوات الوضيعة المتخصصة في بث هذا الغث وسط الإعلانات المبتذلة. وحتي العروض الخاصة الدعائية المجانية التي يحضرها أبطال هذه الأعمال ليست كافية إذا كانت درجة هبوط الفيلم لن يسعفها المقويات ومنها ذلك الفيلم الذي تعمدت ألا أذكر اسمه لأنني لا أبغي التشهير.
فمنذ أيام. تحديداً الأربعاء الماضي. اتجهت إلي أقرب مجمع سينمائي للفرجة علي ما تيسر من أفلام شم النسيم ولكن الفيلم الذي كنت أنوي الفرجة عليه باعتباره الأكثر رواجاً حسبما توقعت لم يعرض في حفلة الثالثة عصراً لأن أحداً لم يتقدم للفرجة. والفيلم الآخر المعروض في الدار المجاورة لن يعرض للسبب نفسه وعرفت لاحقاً أن حاصل جمع التذاكر في هذه الحفلة من العملين المعروضين هو “خمسة”!
ولاحظت وأنا أتابع الفيلم أن الصورة علي الشاشة معتمة علي غير المفروض ولكن الملاحظة الأكثر إثارة للزعل أن التذكرتين المدفوعتين كانتا لشخصين “شاب وشابة” لم يأتيا للفرجة علي الفيلم وإنما لنشاط “ترفيهي” آخر ليس مكانه السينما وقد فوجئ الاثنان بوجودي عندما اضطررت للرد علي مكالمة تليفونية وكما علمت أن هذه ليست الحالة الأولي. وإنما حدثت قبل أيام وحين نبهت الإدارة لهذا الفعل الفاضح نالها من الشتائم ما لم يتوقعه أحد وكان من بينها “هو إحنا دخلنا جامع؟ إحنا في السيما يا أفندي”.
فالأفلام تأتي بجمهورها والحمد لله أن فشلها أمر محقق. أو هذا ما نأمله حتي تعيد صناعة الترفيه النظر فيما تقدمه شكلاً وموضوعاً.
ضريبة إجبارية
إنها الضريبة المعنوية المدفوعة والمفروضة علي الناقد المضطر للفرجة علي مثل هذه الأفلام وعلي الإنتاج السينمائي المصري والنظر إليها بشكل موضوعي وبهدوء باعتبار أنها من بين مسئولياته المهنية وأحياناً أجدها نوعاً من العقاب ليس فقط لأن النسبة الأكبر من الإنتاج الحالي لم تعد مبهجة ولا مسلية ولا تقطع الوقت دون آثار جانبية. ومن بينها الحسرة والتحسر علي صناعة كانت عملاقة وتمثل الزاد والزواد الترفيهي لنا ولأشقائنا في المنطقة وبسبب إنتاج هذه الصناعة وتأثيرها تواصلنا واكتسبوا لهجتنا واعتادوا بعض تقاليدنا. في هذا المجال. ومازال الكثير من إنتاج هذا الحقل المهم كأفلام “الأبيض والأسود” يقوم بمهمة الترفيه وإيقاظ مشاعر الحنين الجارف إلي القاهرة التي كانت. والنجوم الذين ملأوا سماوات الشرق بالأنوار والبهجة وكثير من الفنانين مازالوا يستثمرون رصيد رأسمالهم من المحبة والشهرة أثناء زياراتهم المفضلة للمهرجانات العربية التي ولدت حديثاً وبدأت تنافس حتي المهرجان المصري الذي كان أهم المهرجانات في المنطقة وكنا نباهي به دول افريقيا وآسيا وتاريخه الذي لم تفلح جهود بعض ممن توافدوا عليه في محوه. مازالت موثقة وتشهد علي دوراته الثرية والقوية والتي ضمت نجوماً عالميين من الغرب والشرق.
ماذا جري؟
ماذا جري؟؟ سؤال نقلته بأسي للرجل المسئول منذ سنوات طويلة عن هذا المجمع الأشهر وسط المدينة.. قلت له: لقد كان هذا المكان بالنسبة لنا “قبلة” قريبة لي ولغيري ولعدد كبير من عشاق وسط البلد لموقعه المتميز وأجوائه التجارية التي تضم أنواعاً عديدة من المعروضات وبعض المطاعم وكان مناسبة قريبة للترفيه معقولة وممكنة مادياً.. فهل السبب يكمن فقط في رداءة الأعمال المصرية المعروضة أو أن لتراجع الجمهور أسباباً أخري؟؟
قال: أسباب عديدة باتت تهدد هذا المجمع وجميع هذه التجمعات تقريباً في وسط البلد؟ وبعضها أصبح أشبه “بالخرابات” مثل “ريفولي” والآخرين مهدد بالتوقف تماماً ونحن منهم. والأمر أصبح تقريباً مجرد أسابيع والمكان نفسه سوف تختفي ملامحه لأن جزءاً من الدور الأرضي مثلاً سوف يتحول إلي محل تجاري عالمي ضخم ومتنوع علي غرار “كارفور”.
وربما لن يتبقي في وسط المدينة سوي مجمع “مترو”. و”مترو” هذا “والكلام لكاتبة السطور” كان في سالف العصر والآوان المكان الأكثر أناقة وبهجة لتوزيع الفيلم السينمائي وعرضه وتصميمه المعماري تحفة وكذلك الديكور والأجواء التي أحاطت به واستطيع من خلال تجربتي الشخصية أن أشير إلي عروضه الخاصة بالأطفال صباح كل جمعة. حيث تعرض أفلام والت ديزني التي شكلت وجدان أطفال العالم وقدمت لهم النموذج الأمثل لمعني الترفيه بل وللدور الذي يلعبه في تشكيل ليس فقط الوجدان وإنما العقول ايضا. وكانت “مترو” أول دار يستقبل حفلات المهرجان السينمائي “مهرجان القاهرة”.
والسبب الآخر إلي جانب تراجع القدرة الترفيهية لأغلب الإنتاج المصري. هو العجز الكامل عن المنافسة الذي يزداد يوماً بعد يوم مع التقدم الكاسح للفيلم الأجنبي “الأمريكي”.
وثمة سبب ثالث هو ظهور مجمعات حديثة “مولات Malls” علي النمط الأمريكي الاستهلاكي المبهر الضخم متعدد الإمكانيات الشامل لكل ما تتطلبه الأسرة من أشكال الترفيه بالإضافة إلي وجود أماكن للسيارات تخفف من وطأة المشكلات الناجمة عن انعدام هذه الأماكن تماماً بالقرب من المناطق الترفيهية الجامعة.
البقاء للأقوي
إن الحال لم يعد هو الحال ولن يكون لأن الزمن لا يعود وسوف يظل البقاء للأقوي وقد أصبح “تفكيك” كلمة “الأقوي” يحتاج إلي مجلد شامل. الأقوي في التعليم. في الثقافة. في النفوذ. في الاقتصاد. في العلاقات. في اكتساب التطورات المتلاحقة تكنولوجياً. ومجال الترفيه بمستوياته المركبة ليس بعيداً بطبيعة الحال بل لعل هذه التطورات تبدو علي نحو مذهل في السينما والخيال العلمي. وفي تصوير الكوارث وألعاب الفيديو.. الخ الخ.
ومن هنا تبدو الأعمال السينمائية المتدنية ومنها أفلام شم النسيم المعروضة في صالات خالية بعد انتهاء الموسم خارج السياق صحيح أن هذه الأعمال كانت تشكل متنفساً محدوداً جداً أمام الفئة الأقل حظاً مادياً وثقافياً وإن كان ذلك لا يحدث علي نحو ملموس الآن إلا في المواسم والأعياد فقط.
لقد انتهي موسم شم النسيم والكلام الآن للمسئول الذي بدأت معه الحوار. انتهي ولم نعمل فعلياً سوي يومين ثم بدأ الانحدار السريع ورفع بعض الأفلام عن بعض الحفلات التي لا يأتي إليها متفرج.