لا تكفي مشاهدة واحدة لفيلم سينمائي روائي طويل يمتلك ثراء بصرياً وفكرياً وقيمياً ويتناول موضوعاً حساساً وشخصية دينية تاريخية كبيرة مثل فيلم “أوغسطينوس.. ابن دموعها” الذي حصل علي جائزة الإنجاز الفني في مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط “7 ـ 12” أكتوبر.. ولا تكفي بالتأكيد لو كانت المشاهدة ضمن برنامج يتضمن أعمالاً أخري جديرة بالمتابعة والفيلم عمل ضخم يستحق أكثر من مشاهدة.
فيلم “أوغسطينوس.. ابن دموعها” أول عمل عربي تاريخي مشترك بين تونس والجزائر ومصر.. وأول عمل من الإنتاج الضخم بالمعايير الدولية يخرجه سمير سيف. والفيلم نفسه وكما يقول هو عن حق يعتبر علامة فارقة في مشواره الفني “دائرة الانتقام”. “سوق المتعة”. “معالي الوزير”. “الراقصة والسياسي””.
الانطباع الأول الذي يثيره هذا الإنجاز الفني السينمائي القيم أنه يجمع بين النزعة الأخلاقية والدينية المستنيرة وبين التوجه الإنساني الاشمل لرجل الدين المفكر الفيلسوف الذي تقلب وسط تيارات فكرية وانتقل من الوثنية إلي المسيحية وأصبح أحد أهم الشخصيات المؤثرة في المسيحية الغربية.
الفيلم المأخوذ عن حياته ومع تراثه البصري ويعتبر عملاً درامياً بامتياز. ونموذجاً للخطاب المستنير لقديس عاش قبل الإسلام وأمضي حياته الأولي لا يؤمن بالمسيحية وغير ملتزم بالمعايير الأخلاقية الطيبة.
ولد ومات في الجزائر
أهمية هذه الشخصية المؤثرة جداً في الغرب المسيحي أنه كان فيلسوفاً وكاتباً ورجل دين وصل إلي أعلي درجة ولد ومات في الجزائر “13 نوفمبر 354م ـ أغسطس 430م”. وكان والده وثنياً فظ الأخلاق بينما كانت الأم مسيحية مؤمنة. تحملت سوء أخلاق زوجها بصبر كبير. وسوء وانحرافات الابن في بدايات حياته. ومن فرط أخلاصها استطاعت أن تحقق للزوج الهداية فآمن بالمسيحية قبل وفاته مباشرة ووصل الابن إلي المرتبة التي لم تكن تحلم بها.. فلا توجد أحلام مستحيلة.
عنوان الفيلم “أوغسطينوس.. ابن دموعها” يشير إلي حجم الدموع التي ذرفتها الأم أثناء دعائها للابن بالهداية وكانت هذه الأم امرأة أمازيغية “جزائرية” ظلت تلاحق ابنها بالدعاء والدموع الغزيرة حتي أن قسيس القرية كان يطمئنها بقوله “ثقي يا امرأة أنه من المستحيل أن يهلك ابن هذه الدموع” ومن هنا جاء تسمية القديس “أوغسطينوس” بأنه ابن لدموع أمه.
لعبت دور الأم بإيمان واقتناع كبير الممثلة عائشة بن أحمد وفي دور القديس أحمد أمين بن راضي وشارك في البطولة ممثلون من تونس والجزائر والفيلم تأليف عماد دبور وسامي سامح. وأشرف علي انتاجه يوسف منصور من مصر.
إذن تجربة علي هذا القدر من الاحترام والحرفية تتناول سيرة حياة فيلسوف مسيحي يلعب دوره ممثل مسلم وطاقم من الممثلين يجمع بين تونس والجزائر ويقوم بإخراجه قبطي مصري ويشرف علي انتاجه منتج مصري وتؤدي أغنية المقدمة المطربة ماجدة الرومي من لبنان. ألا يعتبر ذلك نموذجاً لوحدة فنية ثقافية تاريخية عربية معتمدة جماهيرياً من جماهير السينما في البلاد العربية؟
لقد سبق للسينما العالمية أن قدمت أعمالاً عن هذا الفيلسوف ورجل الدين الذي تحول من الإلحاد إلي الإيمان وتأثر بكثير من التيارات الفكرية في عصره وكتب عن تجرية حياته في كتاب “الاعترافات” ووصل إلي مرتبة كبيرة وأصبح من بين أهم وأقوي الشخصيات التي كان لها تأثير في تاريخ الكنيسة في الغرب المسيحي.
وبالنسبة للسينما العربية يعتبر أول عمل تاريخي عربي مشترك ومن ثم فهو عمل “تاريخي” نسبة إلي مستواه الفني الذي يمكن مضاهاته بالأعمال الغربية التي اعتمدت علي الكتاب المقدس “العهد القديم. والعهد الجديد” ومن المؤكد أن المخرج سمير سيف شاهد هذه الأفلام وهي بالعشرات وكذلك تأثر باللوحات الدينية في المتاحف الغربية وبالذات فناني عصر النهضة. وذلك في إخراج الجزء الخاص بحياة القديس “أوغسطينوس” حيث يبدو تأثره بالألوان والتشكيل والتكوين داخل المشهد.
خطان متوازيان يلتقيان
الفيلم يسير في خطين دراميين أحدهما يدور في القرن الرابع والخامس الميلادي ويرتبط بحياة القديس نفسه. نشأته في بلده “تاجست” “الجزائر” وانتقاله قرطاج في تونس حتي يدرس علم البيان ثم ذهابه إلي روما وميلانو وفرنسا وموت أمه وحتي تعيينه أسقفاً وحتي وفاته عن عمر يناهز 76 عاماً.. تاركاً مئات الكتب والمؤلفات والمقالات الفلسفية المهمة جداً في تاريخ الثقافات الإنسانية.
والخط الثاني تدور وقائعه في العصر الحديث “الآن” ويرتبط بحياة المخرج التسجيلي الذي تم تكليفه بعمل عن حياة القديس “أوغسطينوس” فالفيلم يعتمد في بنائه الفني علي حيلة فنية معروفة ألا وهي “فيلم داخل الفيلم” فنحن نتابع حياة قديس مسيحي أثر تأثيراً نافذاً في المجتمع الروماني وفي الكنيسة المسيحية قبل ظهور الإسلام. وأثري الفكر الإنساني بإنتاجه وتنقل في أماكن عديدة متأثراً بفلاسفة ومفكرين قبله.
وفي نفس الوقت ومن خلال المونتاج المتوازي نتابع حياة مخرج تسجيلي شاب عاش مفتوناً ومتأثراً جداً بحياة الشخصية التي كلف بعمل فيلم عن سيرة حياتها حتي يجعلنا نعتقد أن التأثر الشديد جعل هذين الخطين الدراميين متشابهان ومتلامسان أحياناً في أجزاء منها مع تطور حياة كل منهما.
سمير سيف استطاع بفضل سيناريو وحوار جيد أن يمسك بالخطين وما يتفرع منهما من حكايات تتناول الشخصيات الثانوية التي اقتربت وأثرت في حياة الفنان التسجيلي صانع الفيلم ومن القديس “أوغسطين” وأن يجد المعادل البصري لكل خط ذلك الذي يترجم الفترة الزمنية والمزاج النفسي السائد من خلال التكوين والألوان وملابس الشخصيات وأداء الممثلين المعبرين عن ذلك الزمان البعيد ثم هذا الزمن الذي يعيش فيه الفنان التسجيلي الذي نعتمد في مادته علي حياة القديس وسيرته الذاتية.
ليس وعظاً
الفيلم الذي يتمحور حول شخصية دينية حباها الله بالبيان وفصاحة اللسان. والقدرة علي التأثير لا يندرج ضمن قائمة الأعمال الوعظية المباشرة. أو الدينية الموجهة لجمهور بعينه ويمكننا القول إنه عمل مباشر ولكن من دون مباشرة. يتوجه برسالة أو عدة رسائل مهمة جداً إلي المتفرجين داخل إطار درامي إنساني وفني شيق. ولعل أهم الرسائل من وجهة نظري أنه عمل يدعو إلي منتهي التسامح وإلي نبذ التطرف وإعلاء قيمة التفكير والتحليل والنقد للوصول إلي يقين. يمجد أيضا دور الأم الرائعة التي خاضت معركة “شرسة” بأكثر الوسائل نعومة وأعني الإيمان والابتهال إلي الله والحب ورباطة الجأش وعدم الانفعال والصبر الجميل.
ومن الرسائل أيضا أن هذه المنطقة من العالم “شمال أفريقيا” التي كانت جزءاً من الامبراطورية الرومانية حينئذ ليست فقط مهبطاً للديانات السماوية وإنما أخرجت للبشرية رموزاً وفلاسفة ومفكرين أثروا في العقل البشري.
وهذه الرسائل التي حملها الفيلم للمتلقي ليست مسطحة وإنما مركبة وقوية والفيلم نفسه يقدم سيرة حياة ذاتية لقديس قدم للعالم أول سيرة حياته ذاتية في كتابه “اعترافات” ثم “انتكاسات” وهي كتب خالدة.
الممثل الذي لعب دور القديس كان موفقاً جداً في نقل الدرجات المتباينة من مستويات السلوك التي تميز الشخصية في صعودها وتطورها وكذلك اختياره بهذه الملامح والتكوين الشكلي إلي جانب عناصر المكياج والملابس ووجوده محاطاً ببيئة عاكسة لثقافة خاصة بأهل المنطقة ثم موسيقي تصويرية “سليم سدادة” عبرت عن المراحل المختلفة للأحداث بين القديم والحديث إلي جانب الديكور “توفيق الباهي” بدلالاته المرتبطة بمستويات اجتماعية وثقافية وحضارية متباينة وبإيحاءات تجسد بصرياً الرموز التي عاشت وسطها هذه الشخصية باشعاعاتها الإنسانية والفكرية.
توقعات غامضة
وأبدأها بالسؤال: هل يجد هذا الفيلم العربي المشترك الفرصة التي يستحقها في القاهرة بحيث نجده معروضاً في الصالات وأمام جمهور من حقه أن يشاهد مثل هذه التجربة الجديدة عليه؟.. وهل مع وجود بعض النزعات الدينية المتطرفة التي أصبحت بحكم وجود الجماعات الإرهابية المتأسلمة تلون جانباً من الصورة الاجتماعية؟ وهل يمكن أن يحقق النجاح التجاري والجماهيري الذي يستحقه؟؟
الفيلم كما تقول إحدي الشخصيات المسئولة في الجزائر يشير إلي عمق الحياة السياسية والاكاديمية لقرطاج وكل بلاد نوميديا “مملكة في شمال الجزائر أمازيغية” تأسست في الفترة من “202 ـ 46 فبل الميلاد وعاصمتها الآن قسنطينة في غرب شمال أفريفيا” كما يعكس جانباً من الثقاقة النوميدية.
وإلي جانب الأهمية الفنية للفيلم فهو عمل معرفي ممتع يطول لساعتين دون أن يتسلل الاحساس بالملل. وبالإضافة إلي أهميته التاريخية فهو يجسد الدور الايجابي لرجل الدين المنفتح علي ثقافات وتيارات فكرية وقادر علي استيعاب انتاج العقل البشري دون موقف مسبق يسد الطريق أمام التقدم وهو أكثر ما نحتاجه لتكوين خطاب ديني بعيد عن التطرف والتعصب والتمييز علي أساس ديني.
إرادة مشتركة
قد يواجه الفيلم بعض التحفظات وقد يصطدم ببعض الآراء المعادية للاستنارة والانفتاح علي ثقافات وأفكار ليست من صنعنا. فالثقافات لا تعرف الحدود والمعرفة في مواجهة الجهل تعتبر مطلباً جوهرياً يحتاج إلي إرادة مشتركة قوية تواجه عمليات الارتداد إلي الوراء تحت دعاوي تجاوزها قطار التقدم.