“هنادي” و”آمنة” و”زهرة” إناث أخضعن للتهجير القسري في الربع الأول من القرن العشرين قبل أن يظهر هذا المصطلح في القاموس الاجتماعي.. تركن القرية البعيدة في جنوب الوادي والبيت و”الركايب” عنوة، وتم ترحيلهن بأمر من الخال جابر الجبار والمجرد من الرجولة!
الخال غسل عاره بطرد شقيقته وبنتيها بعد اغتيال زوجها والد الصبيتين لسوء سمعته.. خاف أن تطوله الفضيحة وأن يصبحن مصدراً للاخلال بالشرف.
الخروج من القرية القابعة في رحم الجبل محفوف بالمخاطر والطريق الطويل أمام إناث لم يتغربن ولا يعرفن إلي من يلجأن. ولكنها “الرحلة الأولي” في مشوار شديد الوعورة يسكنه المجهول. وحين سمعن صفارة القطار واندفاع هذا الجسد الحديدي العملاق فوق القضبان خفن وسقطن من الرعب فوق الأرض.. انه اشارة من عالم آخر.. عالم المدينة.
هذا الحكي البسيط عن مشوار الإناث الثلاثة في عالم الغربة يبدو بسيطاً وضحلاً جداً أمام الصورة المرئية شديدة الثراء التي رسم بها الأديب طه حسين روايته دعاء الكروان. والتي ترجمها المخرج بركات بلغة بصرية بليغة قادرة علي امتلاك الحواس. ومفعمة بعناصر الجمال رغم وحشتها.
تأمل ذلك الجمع المدهش لسيقان النخيل وشواشيها العالية علي جانبي الطريق المترب بمحاذاة المجري المائي الضيق والسماء ذات الغيوم متفاوتة الكثافة متعددة الدرجات الرمادية التي تغطي السماء وهؤلاء الإناث المدثرات بالسواد يظهرن في لقطات طويلة مترجلات يقطعن المسافة التي تبدو بلا نهاية ولا يظهر منهن سوي كيانات متحركة بعيدة ترافقهن موسيقي “اندريه رايدر” تترجم ما يمكن ان يجيش بصدورهن من حيرة وألم وخوف من مصير منذر.
يلفت النظر جماليات الأبيض والأسود في عنصر التصوير.. فالمصور هنا يرسم بالإضاءة والتباين بين الضوء والعتمة ويستخدم مفردات المشهد الطبيعية الخام ويحولها الي تشكيلات بصرية تعيد الي الذاكرة روائع السينما الكلاسيكية التي تسمو بالصورة والاضاءة والتضاد بين اللونين ومساحات الظلال والضوء الي درجة من الجمال النابض وذلك في لغة ليست مقروءة ولكنها محسوسة لا تخطئها العين.
ليست المرة الأولي بطبيعة الحال التي أشاهد فيها رائعة “دعاء الكروان” 1959 ولكنه السياق الزمني الذي يفرض في هذا اللقاء المتجدد مع عمل سينمائي قديم قراءة جديدة لنفس العمل ولكن المفعم بالدلالات التي تكتسب بالضرورة معني إضافياً.
لقد مضي 58 عاماً علي الفيلم وحفظ المشاهدون جملاً بعينها “وين هنادي يا أمايه؟” أو “هنادي راحت في الوبا” واختزنت الذاكرة بالقطع صوراً بعينها من المأساة وحكايات الحب والانتقام والجنون والعجز أمام تقاليد وأعراف وثقافة مجتمع بأسره وضع الأنثي في حصار عالم متسلط وثقافة ذكورية وقمع يفرضه الرجل ولكنه عجز أن يجرد المرأة من إرادة الفعل والانتقام ومن التسليم بعاطفة الحب الرومانسي.
“دعاء الكروان” قصيدة بصرية قريبة جداً لقلب المتفرج وعقله مهما مضت السنون.. إنه الإبداع الدرامي الخالص بلغة الصورة وحيث “الأبيض والأسود” يستطيع أن يكون تعبيرياً ودقيقاً واثارياً يمتلك نفس القدرة علي التأثير المعنوي والشعوري ولا يقل عمقاً ودلالة عن فيلم الألوان.
يبرع المصور “وحيد فريد” في استخدام الإضاءة وأسلوب توزيعها منذ أول مشهد وبأسلوب تأثيري وتعبيري عالي المستوي. يشيع مناخاً حزيناً يعادل ما يموج في صدور الشخصيات الرئيسية.
فالسينما حتي سينما ما بعد الحداثة مازالت لديها مساحة “للأبيض والأسود” ومازال بعض المخرجين الكبار يختارونه لخلق التأثير المحدد الذي يسعون إلي تحقيقه. ويعترف بعض عشاق السينما بأنهم يجدون متعة في هذه الأفلام. بل وأحياناً يعود نجاح الفيلم الي لجوء صناعه إلى الأبيض والأسود للتذكير بمرحلة معينة “فيلم الفنان” أو حين ترتبط الأحداث بالماضي. أو عند الرغبة في الإيحاء بعناصر غير مريحة ومقلقة وسلبية. أو عندما تحاط الشخصية بالمخاوف في مجتمع غير قادر علي الهروب من قدره مثل ذلك الذي أحاط بمسيرة هنادي وآمنة وأمهما زهرة.
ومخرج الفيلم هنري بركات من المخرجين البارعين والمشهود لهم في استخدام الأبيض والأسود علي نحو خلاق. بالإضافة الي مهارته الفنية الكبيرة في فن ادارة الممثل.
لقد تحول الثلاث إناث الي أيونات “زهرة العلا وفاتن حمامة وأمينة رزق” وأدوارهن في هذا العمل إضافة الي مسيرةكل واحدة منهن الفنية.
ولا ننسي أنه من الشخصيات المؤثرة في الفيلم شخصية “الكروان” الحاضر حضوراً كلياً في نسيج العمل بترجيحاته الموحية والممنهجة إذا صح التعبير.. وجوده في أجزاء بعينها في الفضاء الكبير يذكر آمنة بالعهد الذي قطعته علي نفسها. فضلاً عن أنه بمثابة شاهد علي المشوار المضني الذي قطعته الثلاثة وعلي جريمة الخال “عبد العليم خطاب” الذي يجسد أسوأ ما في تقاليد المجتمع الذكوري الذي يضعه في قمة السلطة والإستبداد ويدفع “حريمه” إما إلى الجنون أو الموت أو التمرد والرغبة في الانتقام.
المصور وحيد فريد واندريه رايدر يصلان إلى ذورة التناغم بعنصري التصوير والموسيقي. ويخلقان سوياً لغة سمعية مرئية تضاعف من تأثير الأحداث وتناسقها وتفرض مقارنة بين ما كان في صناعة الفيلم وما هو حادث الآن.
الدور الخالد لفاتن حمامة لعله الأكثر حميمية لعشاق الأبيض والأسود. وكذلك دور أحمد مظهر الشاب الوسيم الفاسد الذي يتطهر بالحب ويدفع ثمن خطاياه بالموت رمياً بالرصاص.
صورة الأم التي جسدتها الفنانة أمينة رزق علي خلاف جميع الأمهات اللاتي سبق تقديمها تضع المرأة في إطار من التبعية والخنوع والاستسلام لتقاليد مجتمع ظالم في جوهره وقاتل أيضاً بسبب موروثه الثقافي وغلبة النزعة الذكورية ورائحة الدم غير المستهجنة تحت دعاوي الشرف والأخلاق.
“دعاء الكروان” يتضمن كدمات ومشكلات اجتماعية بدت وأنا أشاهده بعد أكثر من نصف قرن برغم سوءاتها أقل مأساوية وأهون كثيراً من تلك التي نعاني منها الآن. فالموروث الثقافي أصبح أكثر تعقيداً وتشوهاً.
وفي ذلك الزمان البعيد حيث تدور الأحداث وفوق أرض الصعيد الجواني اللصيق بالجبل والصحراء والوادي الضيق ترددت كلمة “ترحيل” في إشارة للإناث اللاتي أجبرهن الخال علي مغادرة القرية ولم تظهر حينئذ كلمة “تحرش” وكانت رائحة الدم تنتشر بدوافع الثأر والشرف في حين أننا نعيش الآن في زمن تقطيع الرقاب بدعاوي الدين والترحيل القسري الذي اتضح أنه حدث بصورة مصغرة وقتئذ ولدعاوي مغايرة في “دعاء الكروان” الآن يتم خطف النساء والأطفال الرضع من الإناث لإشباع الغريزة الجنسية.
وتقوم الدنيا وقتئذ ولا تقعد بسبب مهندس الري المتحرش بخادماته بينما لا يهتز للرجال جفن عندما تسقط الضحايا تباعاً لأسباب ليس من بينها الأخلاق أو الشرف.
فيلم اليوم لا يمكن أن يكون “دعاء الكروان” وإنما “نعيق الغراب”.