«سينماتوغراف» ـ علي وجيه
تواصل دانيال عربيد (1970) العمل رغم كل ما تسمعه من أصوات معترضة على أسلوبها وجرأتها. السينمائية اللبنانية تؤمن أنّ الوسيلة الوحيدة لتحقيق الأفلام هي صناعة المزيد منها. ها هي تعود إلى مهرجان دبي السينمائي الدولي الثاني عشر، لتنافس على جائزة «المهر الطويل» في أول عرض لجديدها «باريسية» («لا أخاف شيئاً» حسب الترجمة الحرفيّة عن الفرنسيّة) في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
نحن في باريس 1993. «لينا» (منال عيسى) قادمة حديثاً من بيروت لدراسة الاقتصاد. تهرب من بيت خالتها بعد تعرّضها للتحرّش من زوج هذه الأخيرة، لتجد نفسها وحيدةً في مواجهة العالم الجديد. تحضر صف الفن مصادفةً، فتجد نفسها ميّالةً له أكثر من فرع جامد قائم على الحسابات والأرقام. سريعاً، تحبّ رجلاً متزوجاً يفتّش عن الجنس لا أكثر. هذا الخيار الأنسب لفتاة في عمرها وحالتها، فهي تبحث عن النضج لأنّه أحد وجوه الأمان بالنسبة لها. بعد صدمة حبّ ساذج، يبدأ تحوّل «لينا» من كائن منكمش إلى صاحب قرار، من متأثّر إلى مؤثّر قادر على الفعل. تنخرط بشكل متزايد في يوميات العاصمة الفرنسيّة ونواديها الليليّة، متنقلةً من حضن عاشق حالم بالهجرة إلى أمريكا، إلى عوالم صحفي ناشط في السياسة والأحزاب. الأوّل يفضّل العلاقة المعلّقة، فيما يبحث الصحفي عن الاستقرار والاستمرار. تزامناً، تخوض «لينا» معركة تثبيت نفسها في «الوطن» الجديد، مصرّةً على البقاء والتحقق رغم أنف الجميع.
إنّها تيمة بلوغ سنّ الرشد Coming of age، من منظور عام مختلف. معظم الأفلام تهتم بنظرة الغرب إلى المهاجرين. في «باريسية» تعمل دانيال عربيد على إدارة الكاميرا، فتلاحق نظرة «لينا» إلى الغرب (فرنسا). تتابع تأثّرها بتقلّبات هذا المجتمع وهواجسه وأحلام شبابه. هكذا، تكتشف الفتاة اللبنانيّة أنّ ليس كل شيء على ما يُرام هنا. ثمّة غليان وإحباط وضغوط اقتصاديّة، بل وتضييق على الحريّات في جمهورية قائمة على احترامها. الشرطة تعامل الشباب بقسوة لمجرّد الاشتباه. «لينا» تختبر مناخاً مشابهاً لما يقع في بلدها (مجتمعات المنطقة عموماً). رجل يخون زوجته إرضاءً لشهواته. شاب يحلم بالهجرة من أجل تحقيق ذاته. ثالث يكافح لنشر أفكاره وتوسيع هامش الحريّات. تكتب في كرّاستها: «القبح هو كل شيء هنا». كذلك، تكسر هذه المهاجرة نمط الضعف المكرّس عن أمثالها. هي مبادرة، لا تخشى المواجهة والتمكّن، بل إنّها قد تكذب وتسرق لتحقيق ما تريد. ليس لأنّها شخص سيء، ولكن لانعدام كل ما عدا غريزة البقاء. بالمقابل، يمرّر الشريط هامشاً لنظرة المجتمع للفتاة الآتية من الشرق الأوسط. إنّها رؤى متنوّعة أيضاً، لا تكتفي بجانب أحادي.
بسبب موقف الشريط المضاد لثقافة الـ Mainstream، لم تحصل دانيال عربيد على التمويل بسهولة. في النهاية، جاءت سابين صيداوي المتحمّسة للمخرجات اللواتي يقدّمن المرأة بشكل قوي، وهو أمر معتاد في فيلموغرافيا المخرجة، التي اضطرت للعمل بميزانية أقل من فيلمها الأول بعد كل هذه السنوات. إذاً، نحن بصدد فيلم مينيمالي، تمّ تصويره في 23 يوماً فقط. ينتصر للذات والإرادة الحرّة والانعتاق والقدرة على التحقق.
على الرغم من بعدها الجغرافي، تنجح بيروت في ملاحقة «لينا» بقوّة، حتى أنّها تضطرّ لقضاء الصيف هناك. عائلة مفككة، ومجتمع لا أفق فيه. الأب هو الضوء الوحيد في المكان، إلا أنّه يرحل دون أن يقول وداعاً. تصبح «لينا» على يقين أنّ لا مكان لها في هذا البلد. في نهاية الشريط، تقول نحّاتة تواجه خطر الترحيل: الوطن حيث يعيش المرء بسلام، ويجاهر بأفكاره دون خوف.
اختيار الفترة ما بين 1993 – 1995 جاء بسبب معايشة عربيد للمرحلة. أيضاً، تريد الحد من خيارات البطلة في التواصل وإيجاد الحلول، خصوصاً مع بلدها الذي يعاني من سوء خدمة البريد الإلكتروني، كما أنّ تفاصيل الفترة وموسيقاها وأغراضها تشكّل إغراءً فنياً لأيّ صانع. صاحبة «بيروت بالليل» (2011) فضّلت إظهار باريس الملوّنة، الصارخة بالموسيقا والحياة، لتكون قادرةً على إثارة اهتمام «لينا» وجذبها. بالمقابل، فرضت الحقبة حدوداً لعدسة التصوير الخارجي. قلّة الميزانية لم تسمح بتحرير الكوادر دائماً. هذا جاء منسجماً مع أسلوبية التصوير التي اعتمدت على الكلوز غالباً. كاميرا قلقة، متوترة، بل وشرسة أحياناً. تقترب من وجه البطلة (تصوير: هيلين لوفار)، قبل أن تتحوّل إلى وجهة نظرها في ملاحظة الأشياء والتفاعل معها (توليف: ماتيلد مويار). هي تصادف عدّة شخصيات قبل التعرّف بها، فيما يبدو أنّه تأكيد على الحلقة المغلقة التي تركض داخلها، وأنّه يوجد حالات مشابهة لها من بلاد أخرى.
منال عيسى مفاجأة سارّة على مستوى الأداء والتماهي مع الشخصية. تستحق الإشادة على شغلها. مهلاً، هي مهندسة في الأصل، وليست ممثّلة محترفة. وقوفها لأوّل مرّة أمام كاميرا دانيال عربيد، فتح لها باباً نحو فيلم فرنسي قادم، فيما يبدو أنّه استمرار مهني احترافي. حالياً، تعمل عربيد على إخراج فيلم طويل بعنوان «بسيط كالشغف»، مأخوذ عن رواية للكاتبة آني إرنو.