«دايزيز».. فيلم سريالي درامي عن نهم استهلاك الذات

«سينماتوغراف» ـ يارا نحلة

“كل شيء في هذا العالم يفسَد،” تقول إحدى الفتاتين اليافعتين للأخرى، ثم يشرق وجهها حين تصل الى إدراك ما. “أتعلمين أمراً؟ بما أن كل شيء فاسد، فسنكون فاسدتين نحن أيضاً”. وتنطلق بطلتا فيلم Daisies، للمخرجة التشيكية فيرا شيتلوفا، في رحلةٍ من العبث والحماقات التي لا غاية لها أو مغزى سوى إشباع شهيتهما المفرطة للطعام والفوضى في ظلّ دولة النظام وترشيد الاستهلاك.

كان ذلك في تشيكوسلوفاكيا الشيوعية العام 1966، أي في عالم آخر ودولة بائدة سعت إلى ضبط الرغبات وتقنيها. أما اليوم وقد استُبدل هذا العالم بنقيضه الذي لا يكتفي بإجازة الإفراط فحسب، بل يحضّ عليه، تبدو المفارقات التي صوّرها الفيلم قبل أكثر من نصف قرن جديرة بالمراجعة في زمن النهم والحرمان على حدّ سواء.

تصف شيتيلوفا عملها بأنه “فيلم فلسفي على شكل مهزلة”. فهو يطرح أسئلة عن الحداثة والأخلاق والاستهلاك وعلاقات القوة التي تحكمها توتاليتارية شيوعية ومجتمع بطريركي. ورغم رفض المخرجة تصنيفها كنسوية، إلا أن فيلهما ما زال يوصف حتى اليوم بأنه “أكثر الأفلام نسويةً على الإطلاق”.

في افتتاحيته، تظهر الفتاتان، وكلاهما تحملان اسم “ماري” بالمناسبة، في إشارة إلى الاستخاف الذي تعامل به النساء وإلى عدم امتلاكهن لأسمائهن وأقدارهن، كدُمى تحركها خيوط خفية. تجسد الفتاتان نقيض المرأة السوفياتية المثالية، تلك التي تعمل بلا كلل أو ملل وتمتثل لأصول اللياقات الاجتماعية. فهما شابتان كسولتان، تأبيان المشاركة في تشغيل عجلة الإنتاج أو بناء الأسرة الصالحة. تمتنعان عن العمل وتقضيان أيامهما بالتشمس والثمالة واقامة المكائد للحصول على وجبة مجانية أو بعض المرح. تأكلان بنهم وإفراط، ولا تقيمان اعتباراً لنظرات الاشمئزاز التي يرمقهما بها الرجال، وتسرقان إذا برزت الحاجة لذلك. ترقصان وتتأرجحان على الثريات حيث لا ينبغي عليهما فعل ذلك، وتتحولان مصدر إزعاج للحضور الراقي.

يبحث الفيلم أيضاً في بعض الثيمات الوجودية، كأن تطرح إحدى البطلتين سؤال “ما الدليل على وجودكِ؟” فتجيبها الأخرى “أنتِ”. لكن في انسلاخهما عن المجتمع وتفلتهما من قوانينه- كالعمل والتسجيل الرسمي- تشعران أنهما خفيتان، لا أحد يلحظهما وكأنهما قد “تبخرتا”. الدليل الوحيد على وجودهما الماديّ هو ما يخلفانه من خرابٍ خلفهما. إلى جانب البعد التدميري، يتخذ سلوكهما بُعداً عدمياً ينتهي دائماً إلى الإقرار بأنه ليس هناك ما يهم. ولذلك تعيشان حياتهما كسلسلة من الهزليات لكنهما ترفضان المشاركة في المهزلة الكبرى، مهزلة الحب والعمل.

يستعرض الفيلم الأطعمة على أنواعها في مختلف مراحل نضجها وفسادها، مصوراً الإنهيار البطيء الذي مرّ به المجتمع التشيكي في حينها. لا تجد “الماريتان” جدوى من مجاراة هذا السقوط في بطئه، فتسابقانه لبلوغ القاع، على اعتبار أن لا داعي لإطالة المعاناة أو التنكر لها. وانطلاقاً من إدراكهما بأن الجمال والشباب، لا سيما بالنسبة للنساء، زائلان أيضاً، تسعيان إلى الاستفادة منهما قدر الإمكان طالما لا يزال ذلك ممكناً. في إهدارهما لكميات ضخمة من الطعام، تسخر البطلتان من المجتمع البرجوازي الذي يفرط في الإستهلاك، ومن النظام الشيوعي الذي يضع شروطاً وقيوداً على هذا الإستهلاك. لكن، وعلى غرار احتجاجهما على أحكام المجتمع البطريركي، فإن سخريتهما من أسلوب الحياة البرجوازي، لا تعني أنهما لن تحاولا استغلاله والاستفادة منه، من دون الرضوخ تماماً الى شروط.

في تحدٍ لواقعية السينما السوفياتية، يزخر فيلم فيرا شيتلوفا- وهي واحدة من مخرِجات الموجة التشيكية الجديدة- بالرمزية والسوريالية البصرية، خصوصاً تلك التي تجمع بين الطعام والجنس. تشير بعض الرموز الى جنة عدن، كالشجرة التي تظهر في أول مشاهد الفيلم، وهي إستعارة لخطيئة حواء الأصلية وتمرّدها على الرب. كما يتكرر ظهور المقصّ الذي تستخدمه الشابتان لتقطيع أصناف من الطعام تحمل شكلاً لعضواً ذكرياً.

الطعام والجنس مرتبطان منذ اللحظة الأولى، إلا أن سلوك الفتاتين إزاءهما متناقض الى أبعد حدّ. هما تطلبان دائماً المزيد من الطعام لكنهما ترفضان “تقديم” الجنس في المقابل، أو حتى من دون مقابل. تقومان يومياً بالمقلب نفسه، تستدرجان الرجال الأكبر سناً لدعوتهما إلى العشاء، فتطلبان شتى أنواع الأطباق وأغلاها ثمناً. تأكلان أكثر من حاجتهما بكثير، وبسرعة ونهم قياسيين، تتقصدان إصابة الرجل الذي دعاهما بالقرف، غير أن الأخير يغض النظر بانتظار ساعة مغادرة المطعم والعودة الى المنزل برفقة امرأة شابة. لكن خديعة الفتاتين لا تنتهي هنا، إذ تمتنعان في نهاية المطاف عن الوفاء بالتزاماتهما تجاه هذه المقايضة (الطعام/المال مقابل الجنس) بشيء من المكر والخبث.

تحيط الشابتان نفسيهما بكل ما يرمز إلى الجنس لكنهما تمتنعان عنه، وكأنهما تسعيان إلى الحفاظ على “فانتازمية” رغبتهما، تلك التي تبقى في إطار التصورات الذهنية من دون ترجمة حسية خارج حدود الذات. لا يخلو هذا السلوك من نكوص طفولي ونرجسية مردّها إلى العجز عن إدراك الآخر، لكن في حالتهما هي قرار واع وإرادي بتجاهل وجود الآخر والاكتفاء بذاتيتهما. في هذا “الفانتازم” الانتقامي المطول الذي يجسّده فيلم “دايزيز”، تستمدّ الشابتان لذتهما من التخريب والتدمير واشعال الحرائق وتقطيع الأشياء، في محاولة تمرد نسوي على قوانين اللذة التي تخطها الجنسانية الذكرية.

أما السؤال الذي يتبادر إلى ذهن المشاهد فهو عن طبيعة هذا العمل: هل هذه كوميديا أم تراجيديا؟ إنه سؤال ننتظر تبلور اجابته في ختام الفيلم، إلا أنها اجابة لا نحصل عليها قط مع قيام المخرجة بـ”مكيدتها” الأخيرة عبر تقديم نهايتين محتملتين للفيلم، تحصل الشابتان في إحداهما على الخلاص، فيما تقودهما الأخرى إلى هلاكهما النهائي.

“هل هناك من طريقة لإصلاح ما تم تدميره؟” تتساءلان، لكن الإجابتين المحتملتين لا تخلوان من عناصر الكوميديا السوداء؛ فحتى وإن كانت لديهما فرصة للنجاة من عبثيتهما الداخلية، فهذه النجاة ليست سوى استسلام لعبثية المجتمع وفساده المقونن والمنظم.

 إن التماهي الفردي مع هذا الفساد هو الآلية الدفاعية التي تختارها بطلتا فيلم “دايزيز” للفرار من وضعية الضحية إلى وضعية المذنب. يذكّر هذا السلوك بما يعيشه مجتمعنا اليوم، هو الذي عرف فساد الدولة والمؤسسات وذاق مرّه على مدى عقود، لكن بدلاً من مقاومته استدخله وجعله أسلوباً لحياته. أما الجوع، فهو المحفّز الأساس للنهم، النهم الذي لا يعرف حدوداً، فينتهي إلى استهلاك الذات.

Exit mobile version