في 18 أغسطس 1978، وبعد لحظات قليلة من بداية عرض فيلم في سينما «ريكس» في مدينة عبدان الإيرانية، أغلقت الأبواب بإحكام على المتواجدين فيها، ثم أضرمت النيران، ليحترق أكثر من 600 مشاهد. وسرعان ما ألصقت هذه الجريمة الوحشية بنظام الشاه وجهاز مخابراته «السفاك». غير أن الحكومة الإيرانية صرحت، أمام الغليان الجماهيري العارم، بأن مرتكبي الحريق هم من الموالين للمعارضة الدينية التي كان يقودها الخميني.
وفي اليوم التالي، تجمع عشرة آلاف غاضب من أقارب القتلى والمتعاطفين «من المعارضة الدينية والعلمانية» لتشييع جماعي حاشد للقتلى، كما نظموا مظاهرة تنادي «ليحترق الشاه» و«الشاه هو المذنب». غير أن المثير أنه حين جاءت الحكومة الإسلامية وطالبت أسر الضحايا بإحقاق الحق، كما نقلت ذلك الروائية «آذر نفيسي» في سيرتها «أشياء كنت ساكتة عنها»، هوجمت الاحتجاجات والاعتصامات واستقال عدد من النواب العامين خلال التحقيقات. وبسبب الضغوط الجماهيرية، اعتقل وأعدم أشخاص كثيرون، مذنبون وأبرياء على السواء. في بعض الحالات كان واضحا وضوح الشمس أن التهم الموجهة إليهم ملفقة- واعتبر أحد الضباط مذنبا ونفذوا بحقه عقوبة الإعدام، وهو حتى لم يكن حاضرا في المدينة وقت وقوع الحادث. وزعم شاب كان متورطا بشكل مباشر في الحادث أنه اعترف للسلطات، لكن لم يأخذ أحد اعترافاته تلك على محمل الجد. كان الغضب والهستيريا يتفوقان على الحقائق كلها، وكان الناس يصدقون ما يريدون أن يصدقوه. وفيما بعد تبين أن الحريق لم تخطط له حكومة الشاه، بل المتعاطفون مع المعارضة الدينية، الذين أحسوا أنهم بصنيعهم هذا يمكنهم أن يسرعوا العملية الثورية. ولأن التحقيق تعثر منذ البداية، تجلت الحقيقة تدريجيا. وأخفت الحكومة الإسلامية والصحف الرسمية الشاهد، وحاولوا أن يلقوا باللوم على الشاه.
لم يكن إقدام «الخمينيين» على إحراق قاعة سينما شيئا غريبا، بل كان في صلب البرنامج الحكومي للإسلاميين، حيث بدأ الخميني في تشديد الرقابة على الأفلام، كما فرض قيوداً صارمة علي قطاع السينما من قبل وزارة الثقافة التي تم تغيير اسمها بعد سقوط الشاه إلي «وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي».
وفي ظل هذه التغيرات قرر بعض المبدعين والمثقفين والفنانين والأساتذة الجامعيين الإيرانيين السفر الى خارج إيران، بحثا عن آفاق جديدة للإبداع بدلا من البقاء في حكم الخميني الذي بدأت ميليشياته تقتحم البيوت وتضع يدها على كل ما تعتبره آية من آيات الشيطان. إلا أن بعض السينمائيين، ولأسباب متعددة، وافق على العمل بالشروط الجديدة، حيث استخدمهم «الفقيه» أداة لتأصيل توجههات «الثورة الإسلامية» وأفكارها في نفوس الشعب الإيراني، فبدأت الدولة تنتج أفلاما تحت اسم «الدفاع المقدس».
ومع ذلك، فإن اللافت أن المبدعين البارزين في إيران، الذين صنعوا لها اسما، يعملون إما خارج أوطانهم، أو تمنع بعض أعمالهم من العرض في إيران، مثل عباس كيروستامي، كمال تبريزي، محسن مخملباف، جعفر بناهي. فالنظام يستفيد، حتى الآن، وبإصرار براغماتي، من شهرتهم، دون أن يقدم لهم التقدير الذي يستحقونه. بل المثير هو أن الدولة تسمح لهم بالمشاركة في المهرجانات الرسمية بإيران، لكنها تبقي على منعهم من العرض في القاعات، وهي عملية إحراق رمزية تتصل بما وقع في سينما ريكس.
إن الأنظمة الشمولية هي أصلا مبنية على «الاستعمال» و«البروباغاندا»، وعلى القيد والرقابة والحجب والتصفية والإحراق. ومع ذلك، فإن سينما «ريكس» تبقى حالة فريدة من نوعها، إذ أن المخرجين الإيرانيين استطاعوا الذهاب بسينماهم إلى مكان آخر خارج أي قيود مفروضة عليهم. ولهذا، فإن «ريكس» أكبر حجة على أن أعتى الأصوليات وأقواها لن تستطيع أن تقف أمام أجنحة الإبداع متى كان المخرجون مسلحين بإرادات قوية تستطيع أن تهزم كل النيران.