أحد أفلام عروض بانوراما الفيلم الأوروبى بالقاهرة 2014
“رأس المال البشري” … وقيمة السرد
“سينماتوغراف” ـ إسراء إمام
الأصل الروائى فى بعض الأحيان يكن دليل لإثبات جدارة الفيلم المأخوذ منه، والذى ليس بالضرورة أن يحيد عن شكل حبكته الأدبية تماما ليبدو فيلما عبقريا، بينما يتسم جانبا من شخصياته، كادراته، وسرد حوادثه بطابع سينمائى، قادر على أن يبلغ بالمتفرج إلى حالة منعزلة تماما عن الرواية المستند إليها، وكأنه يستولدها تارة أخرى، من دون أن يعبث بقدرها. بينما فى الوقت ذاته، ثمة أصل روائى، يحصر الفيلم المأخوذ عنه فى خانة ريبة، قد يتدنى فيها مستوى الإنطباع (حينما يفقد المتفرج متعته، ويقارن الفيلم بأصله الأدبى) وقد يقف مؤشر الحكم عليه عند منطقة جيدة (تكون شهية المتلقى حينها اُتخِمت بالقدر المطلوب من الرِضا).
فيلم (the human capital _ رأس المال البشري) للمخرج باولو فيرتسي أحد أفلام عروض بانوراما الفيلم الأوروبى 2014_ وهو من الأفلام القائمة فى أساسها على أصل أدبى لـ ستيفن أميدون. ومن الواضح أن الفيلم إختار أقرب طريق لتنفيذ الرواية، على حسب ترتيب فصولها، ليس عن قِلة حيلة، وإنما نتيجة لإستعذاب سردها المُنمق والمتداخل بشكل شيّق.
الرواية فى هذه الحالة، هى من احتوت فى قلبها تعويذة جمال الفيلم، ومنحته أكثر من سر، فهو يدين لها بالفضل، وإن لم يُلم بكل ما تحمله فى جعبتها، فقد تمكن بنسبة أو أخرى من نقل هيبة حكيّها إلى المتفرج، مُترجمة إياه فى صورة حيوية رشيقة ومليئة بالمفاجآت.
ضعف أول فصل
تتوالى فصول السرد بعد حادثة تقع فى المشهد الأول، حيث يسقط رجل من فوق دراجته على حافة الطريق، بعدما تصدمه سيارة ما، تاركة إياه بين نزيفه دون مساعدة. بعدها يبدأ الفصل الأول بإسم “دينو” وهو أول شخصيات الفيلم التى لا علاقة لها بضحية الحادث، وفى الوقت ذاته تحمل أول مفتاح من مفاتيح حل اللغز.
بسبب غموض شخصية “دينو” وحكايته بأكملها بالنسبة إلى ما حدث فى مشهد الإفتتاحية. تتواجد مساحة غربة بين المتفرج وبين الإندماج معها. إضافة إلى بعض الرتابة التى عانى منها السيناريو فى صياغة أزمة دينو، وهى الحدوتة المُختزلة حقيقة فى بساطة لا تتلائم مع كل هذا المط السردى، وهذا فارق حاسم بين نوع الحكى الروائى والسينمائى، ففى الرواية قد تتسع السطور لإستيعاب الخواء الذى ينبعث من جنبات قصة كتلك، فالأدب يجد طريقه لتشريح الشخصية ونسج بيئتها المحيطة بنوع من الحميمية، وبعيدا عن وجود حدث ملموس. ولكن فى المقابل لم يعى السيناريو الطبيعة التوظيفية سينمائيا لحدوتة “دينو” بين بقية الفصول اللاحقة، والقائمة فى الأساس على نقطتين، أولهما الإشارة لرأس المشكلة (تورط دينو فى خسارة مالية إثر مشاركة والد صديق ابنته الثرى)، وثانيهما التعريف المبدئى بباقى الشخصيات التى سيُفسح المجال لدورها فيما بعد. تحمّل السرد فى الفصل الأول أكثر من طاقته، فأهدر الكثير من طاقته وبدا باردا خالقا مسافة حادة بينه وبين المُشاهد، مسافة لا يجب أن تكون بأى شكل من الأشكال فى بداية فيلم، حتى وإن غفر لها ما تلاها.
الفصول اللاحقة
تدب الحيوية بمجرد بدء الفصل الثانى. وعلى إمتداد نقطتين إجابيتين يتضح الوجه الجرىء للسرد، ففى البداية يعى المتفرج إنه بصدد التعرض لذات الموقف مرات متوالية من وجهة نظر كل شخصية، مما يثير شغفه، ويلملم طاقته المستنزفة فى التأقلم مع أحداث الفصل الأول. وعلى الصعيد الآخر تظهر “كارلا” (والدة صديق سيرينا ابنة دينو) وهى الشخصية الأكثر فتنة، بالرغم من انطواء الجزء الخاص بها على نفسه، وإحتفاظه بطريقة غير مُعلنة عن مشاعرها المتضاربة.
ولكن ذكاء السيناريو تنامى هنا للضعف، وبدا فى هذه الجزئية التى تخص كارلا أقوى فى طلته، مغاليا فى مجهوده بخصوص ترجمة سطور الرواية إلى صورة سينمائية. بداية من إختيار الجميلة valeria bruni للعب الدور، وحتى صياغته للمشاهد المقتضبة والموحية بخيبة أمل كارلا حيال حياتها الآنية مع زوجها وابنها. فهى تبدو بنصف وعى، وتبحث فى سكوت عن ما ينقصها على ضفة أخرى عصية الوصول، كل هذا تبدى فى ترددها الدائم قبل الحديث، النظرة المهزوزة المتربعة فى عينيها طوال الوقت، صوتها المبحوح وملامحها المغدقة فى الشرود. كلها قسمات قفزت على وجهها طوال مشاهدها الأولى، وقت ذهابها إلى أتيليه التحف، وبعدها إلى المسرح الذي رغبت فى شراءه وترميمه، ومن ثم وقت الجلوس على طاولة النقاش فيما يخص مستقبل المسرح. حتى المشهد الذى طلبت فيه من زوجها شراء المسرح، لم تكن حماستها المتبدية صادقة بما فيه الكفاية لتمسح عن ردات فعلها الركود.
وبالرغم من أن الفصل المعنون بإسم “سيرينا” هو الذى يحوى القدر الأكبر من تقلبات الحدث، ومزاجيته الحريفة الأخاذة. إلا أن جمالية فصل “كارلا” ستظل متفردة، لأنها خلقت من الفراغ كل شىء (عكس ما حدث من إخفاق وقت الإلتفاف المسهب فى تفاصيل حكاية دينو)، إضافة إلى تحققها سينمائيا فى خصوصية وعلى مبعدة من توحش الرواية وفرض سيطرتها، والثناء يعود فى جزء كبير منه لـ valeria bruni .
لمسات
على الرغم من الوقت الضيئل الذى شغلته مساحة علاقة سيرينا بـ لوكا مقارنة بتوقيت الفيلم، إلا أن السيناريو جسدها ببراعة تفى بالغرض وتفيض. فوجودهما معا كان ينبض بمشاعر أتقن السيناريو رسمها بالصورة، وعاد فيها لمنطقة استحواذه على الحدث من جديد. مما مهد لتبعات هذا التعلق الصادق الذى ربط بينهما، وجعل منه حُجة كافية للتعاطف مع لوكا على الرغم من جرمه الشائن بخصوص سائق الدراجة. وساهم فى العمل على إبراز الجانب الإنسانى الذى نراه للوكا وهو مع سيرينا، ليبقى قادرا على محو شعور الكراهية الذى قد اختزنه المتفرج حيال هذا المجرم وقتما كان مجهولا فى الفصول الأولى.
أقوى مشاهد لوكا وسيرينا، هو مشهد العلاقة الجسدية التى جمعتهما، والتى تبدت أمام الكاميرا برقى يمتلأ عن آخره بالقبول والرغبة، تماما مثلما نُفذت العلاقة التى جمعت بين كارلا والمخرج الفنى الذى قصدته لتطوير المسرح، فبرزت بذات الهيئة الرقيقة والمشحونة بالمشاعر، دون مواربة وإفصاح مباشر فى آن.
آخر كلمتين:
_ the human capitalـ رأس المال البشري، فيلم تتوقف قيمته العظمى على تعقيدات السرد، فبدون السرد لبقيت القصص عادية، عاجزة عن التعبير عن نفسها بصيغة حادة وحاضرة.