رؤوف توفيق : صناع السينما لايهتمون بالنقد وعودة الدولة للإنتاج ضرورة

«سينماتوغراف» ـ انتصار دردير

لم تكن الحركة السينمائية لتكتمل من دون وجود نقاد يقومون بتقييم الفيلم وتحليل عناصره، بدءا من السيناريو وأسلوب السرد وقوة الحوار ومرورا بأداء الممثلين وزوايا التصوير والديكور والمونتاج والموسيقى والاخراج، وقد سادت لدى بعض النقاد فكرة «الحكى» الذى يعتمد على الاسترسال فى تناول أحداث الفيلم  بشكل تفصيلى مما يحرق الأحداث ويجعل القارئ يعزف عن مشاهدته.

قد يكتب الناقد بعض العبارات المستهلكة مما لاتنفع ولاتضر، وهو ما أدى لعزوف صناع السينما عن متابعة ما ينشر من نقد لايضيف لهم شيئا، لكن الناقد السينمائى الكبير رؤوف توفيق انتهج أسلوبا مختلفا، فهو يتناول الفكرة بشكل مبسط ولغة سهلة ينقلك من خلالها الى أجواء الفيلم ويركز بشكل أساسى على الفكرة باعتبارها نقطة الانطلاق، ثم يأخذك الى الصورة موضحا جمالياتها وعلى تقنيات الاضاءة والموسيقى والمونتاج والاخراج، فتشعر بعد أن تقرأ مقالاته أنك كنت بجواره فى السينما وأنك شاهدت الفيلم معه وتأثرت به سلبا أو ايجابا مثله، ويبقى وصفه فى ذاكرتك طويلا لا يبارحها.

  يعد رؤوف توفيق أحد نقاد السينما القلائل الذين ساهموا بكتاباتهم فى تطورها وإحداث تغيير بها وفى التأثير على الجمهور، الذى وجد فى كتاباته ماينشده، إذ إتسمت بالتناول الموضوعى، والتحليل العميق، والاهتمام بالتفاصيل الصغيرة التى لايلتقطها سوى عين محب.

 فهناك حالة عشق خالصة للسينما عاشها الناقد الكبير – متعه الله بالصحة والعافية – تمثلت فى ثلاثة محاور أولها رؤوف توفيق الناقد، ثم المؤلف والسينارست الذى يكفيه فخرا أنه صاحب القصة والسيناريو لفيلم «زوجة رجل مهم»، وأخيرا الكاتب الذى أثرى المكتبة السينمائية بثمانية كتب هامة لايمكن لمحب للسينما أو دارس لها ألا أن يكون قد قرأها أو بعضا منها.

علاقة رؤوف توفيق بالسينما بدأت من صعيد مصر الذى شهد ميلاده وسنوات نشأته الأولى، وكانت سينما «جرجا» بمحافظة أسيوط هى أول شاشة يطالع الأفلام من خلالها فقد اعتاد الذهاب للسينما منذ طفولته، وكان يتردد عليها أسبوعيا يشاهد الأفلام ، وبعدما انتقلت أسرته الى القاهرة بحكم عمل والده أتيح له فرصة المشاهدة التى تمناها، وأخذ يرتاد دور السينما بعماد الدين التى كانت تعرض أحدث الأفلام العربية والأجنبية.

ووسط مشاهداته المتعددة فى تلك المرحلة كان هناك فيلما الأكثر تأثيرا فى تعلقه بها وهو فيلم «غزل البنات» الذى أبهره بكم النجوم المشاركين فيه الذين نجح الفنان انور وجدى فى جمعهم فى فيلم واحد واعتبره نقطة تحول كبيرة فى علاقته بالسينما، وكان نجيب الريحانى بأدائه البارع لشخصية الأستاذ حمام هو مازلزل كيانه واسال دموعه ولازال هذا الفيلم ينتزع دموعه كلما شاهده، وقد أدرك من خلاله «قوة السينما» وعبقريتها حين تكون صادقة.

غزل البنات

وعلى صفحات مجلة صباح الخير كانت انطلاقته كناقد سينمائى يشاهد ويكتب ويحلل الأفلام ويشجع التجارب الأولى متغاضيا عن بعض هناتها، وأخذ يلهث من مهرجان الى آخر جريا وراء معشوقته السينما، وقد ظل رؤؤف توفيق على مدى أربعة وعشرين عاما حريصا على حضور مهرجان «كان» والكتابة عن أفلامه، كان رؤوف بحكم عمله فى مجلة أسبوعية يكتب متأخرا عن النقاد الذين ينتمون لصحف يومية ورغم ذلك ظلت كتاباته تحتفظ بطزاجتها وكأنه يرى فى الأفلام مالا يراه الآخرون، وقد صحب قارئه معه الى كواليس صناعتها كاشفا الكثير من أسرارها، بدءا من أساليب الدعاية التى تتفنن شركات الانتاج فى ابتكارها، مؤكدا أنه لايكفى أن تصنع فيلما جيدا لتفتح لك أسواق العالم أبوابها، ولكن لابد من الدعاية، ولابد أن تخترع أسلوبا جديدا لكى تلفت الأنظار وتدير الأعناق لكى تلتفت اليك، ففى وسط الزحام لابد أن تصرخ بأعلى صوتك لكى تقول: أنا موجود.

وفى لقائه مع «سينماتوغراف» أردنا ان ندخل عالم رؤوف توفيق بوجوهه الثلاثة الناقد وكاتب السينايو والكاتب.

1 ـ أهمية النقد

(لاشك ان النقد مهم للسينمائى صانع الأفلام أى كان موقعه مؤلف أو مخرج أو ممثل أو مونتير أو غيرهم، ومهم أيضا وبنفس الدرجة للجمهور ليدرك ما الذى يشاهده  ولماذا يشاهد عمل دون آخر).

بداية أوضح من خلالها رؤوف توفيق أهمية النقد، مشيرا إلي أن أغلب صناع السينما ونجومها لم يعودوا يهتمون بما يكتبه النقاد، حيث يرفعون شعار «خليهم يكتبوا» لايعنيهم ما يكتب ولايحاولون تطوير أنفسهم وتلافى أخطائهم، مدللا على ذلك بقوله، مثلا «آل السبكى» لا يهتمون بالنقد، لأنهم يعتقدون أنهم الاكثر فهما للسينما والصناعة والفن وذوق الجمهور، وبالتالي صار الأمر مختلفا، قبل ذلك كان للنقد تأثيره القوى على السينما والسينمائيين والجمهور أيضا، وفي كل الأحوال يرتبط النقد يرتبط بالثقافة العامة للمجتمع، ففى أوربا يلعب النقد دورا مهما فى توجهات المشاهد لأن الجمهور يهتم بذلك ولديه وعى كبير بأهمية النقد السينمائى، أما الجمهور عندنا فأغلبه لايقرأ مايكتب ويذهب للسينما اعتمادا على اسم الممثل بالدرجة الأولى، والفنان نفسه لايهتم بقدر كبير بما يكتب عنه، وهو مايؤثر على عمر الفنان، فلاشك أن اهتمامه بما يكتب عنه ينعكس على تطوير أدواته وصقل موهبته، عكس نجوم زمان الذين كانوا يهتمون بما يكتبه النقاد سواء كان معهم أو ضدهم. ربما لانه كان هناك نقاد حقيقيون، دارسون للسينما، يتمتعون بالموضوعية، لكن الان اختلطت الامور، وصار النقد نفسه فى أزمة.

أرجوك اعطيني هذا الدواء

2 ـ رؤية نقدية

(للسينما نقادها الكبار، المتابعين لحركة السينما العالمية وتطورها وقد ساهموا بلاشك فى الدفع بالسينما المصرية مثل سامى السلامونى ورفيق الصبان، أما الآن صار النقد مهنة من لامهنة له).

عن منهجه في النقد، توقف رؤوف توفيق قائلا: أكتب رأيي بأمانة لصالح العمل الفنى وليس لصالح أحد آخر، وقد التزمت بذلك فى كل ماكتبته، أذكر اننى كتبت ذات مرة عنوانا «أنه فيلم سافل» عن فيلم «اعطنى هذا الدواء»، وكان احسان عبد القدوس كاتب الرواية رئيسا لمجلس ادارة المؤسسة التى أعمل بها، فقال لى «العنوان خارج» ولم يناقشنى فيما كتبت ولم يكن ما كتبته ضد احسان بل ضد الفيلم، لكنه كان رجلا متفتحا وجميلا، الأمر نفسه حدث فى فيلم «حمام الملاطيلى» حين انتقدت الفيلم بضراوة، واتصل بى صلاح أبو سيف وكانت تجمعنا صداقة كبيرة وقال لى بطريقته المهذبة: أنت مبالغ جدا في نقدك للفيلم، ولم يؤثر ذلك فى صداقتنا التى استمرت حتى رحيله، وقد حصلت به على الجائزة الاولى للنقد السينمائى من الدولة، وقد ظل الراحل سامى السلامونى محبوبا من السينمائيين رغم أرائه الهجومية لأنها كانت عن رؤية نقدية اتسمت بالموضوعية، وكانت تستهويني كتاباته، ومن الجيل الحالى طارق الشناوى، الذى يكتب بأسلوب سلس بعيدا عن التقعير.

المسافر

3 ـ السينما الحالية

(لاشك ان الآونة الأخيرة شهدت سيطرة الأفلام التجارية السطحية التى لاتبقى فى الذاكرة وينساها المشاهد بمجرد انتهائها).

مدخل أوضح من خلاله رؤوف توفيق رؤيته للسينما الحاليه، مضيفا: طبعا لا أحد من الجمهور يتحمل حاليا مشاهدة قضايا جادة، الجمهور نفسه يشاهد الأفلام ليرقص ويغنى، وهذا يحدث بعد الثورات والحروب والأزمات السياسية حيث تسيطر نوعية الأفلام السطحية على ذوق الجمهور ومنتجيها غالبا تجار لا تعنيهم السينما وكل مايشغلهم تحقيق أكبر ايرادات، فلم يعد هناك المنتج الفنان مثل آسيا ورمسيس نجيب، لهذا لابد من تدخل الدولة وعودتها للانتاج وتكرار تجربة القطاع العام فى السينما. وفى دول العالم التى تستوعب أهمية فن السينما لابد ان يكون الانقاذ من خلال الدولة، وتجربة القطاع العام في مصر كانت بها جوانب سلبية لكن بقى منها أفلاما مهمة لايقدم عليها منتج خاص، أما فكرة الدعم الذى تقدمه وزارة الثقافة فقد أثبت فشله فى فيلم «المسافر» الذى لم يكن يستحق التكلفة الكبيرة التى أنفقت عليه، وباتت السينما المستقلة هي من تنقذ وجه السينما المصرية فى المهرجانات السينمائية، لكن من يشاهدها وكم نسبة من يشاهدوها، فهى لم تحقق تماس مع الجمهور لأنها لاتجد طريقا اليه فلا توزيع لها ولا دور عرض ترحب بها والتليفزيون كذلك يتجاهلها.

فيلم ذيب

4 ـ السينما العربية

(فى ظل تجارب عربية حققت نجاحا عالميا مثل الفيلم الأردنى «ذيب»، يرى الناقد السينمائي رؤوف توفيق أنها في مشكلة كبيرة).

ويتابع تحليله قائلا: لاتوجد وسيلة لمشاهدة الأفلام العربية الا من خلال المهرجانات السينمائية، وهذه مشكلة كبيرة تحول دون وصول الافلام الجيدة منها الى الجمهور العربى فى كل مكان، وأحيي السينما السورية لأنها تصر على الانتاج رغم الحروب التى تعيشها سوريا، أماالسينما فى المغرب العربى لها باع طويل وجمهور يقبل عليها، والسينما الخليجية لاتزال فى دور التكوين وتقطع خطوات مبشرة تعكس اهتمام حكوماتها بالسينما والمهرجانات.

مستر كاراتية

5 ـ الكاتب والسينارست

(من النقد السينمائى الى كتابة السيناريو اتجه رؤوف توفيق ليخوض تجربته كمؤلف وسينارست).

كانت البداية عام 1979 من خلال التليفزيون حيث كتب ثلاث مسلسلات «الآنسة»، «اغتيال ممثلة»، وكانت تجربته الثالثة من خلال مسلسل «الحياة مرة أخرى»  والأعمال الثلاثة من اخراج رفعت قلدس.

وفى السينما كتب أربعة أفلام، حملت ثلاثة منها توقيع المخرج الكبير محمد خان وهى «مشوار عمر» عام 1986 الذى شارك محمد خان فى كتابته، ولعب بطولته فاروق الفيشاوى، «زوجة رجل مهم» عام 1988 لأحمد زكى وميرفت أمين، الذى آثار ضجة كبيرة لجرأته وواقعيته وصدقه وتميز أسلوبه الفنى الذى كتبه الناقد رؤوف توفيق وقد حاز الفيلم على عديد من الجوائز المهمة فى السيناريو والتمثيل والاخراج، ومنها جائزة أحسن سيناريو من جمعية الفيلم وبعد سنوات من انتاجه صدر السيناريو فى كتاب تقرر تدريسه لطلبة معاهد السينما كنموذج على تكامل الفكرة والسيناريو وبراعة الحوار، ثم  «مستر كاراتيه» عام 1993 لأحمد زكى ونهلة سلامة، وبعد ذلك فيلم «فرح» عام 1999 وأخرجه هانى لاشين، كانت هذه هى الأفلام التى خرجت للنور، لكنه كتب كثيرا من السيناريوهات التى تعثرت انتاجيا، ومنها فيلم «وإن طال السفر» عن هجرة المصريين، وسفرهم وترحالهم  ثم عودتهم الى بلادهم مهما حققوا من نجاح فى الخارج، وكان سيخرجه عاطف الطيب، لكن بعد رحيله تعاقد عليه المؤلف مع جهاز السينما أثناء تولى الراحل ممدوح الليثى رئاسته لكنه ظل مشروعا على الورق ولم يدخل حيز التنفيذ.

زوجة رجل مهم

6 ـ حكاية فيلم

(وراء كل فيلم حكاية، وزوجة رجل مهم، حكايته من قلب الواقع، يبوح رؤوف توفيق بأسرارها، ويتوقف أمام هذا العمل المتميز شكلا ومضمونا).

يقول الناقد السينمائي الكبير، جاءتنى فكرة فيلم «زوجة رجل مهم» من خلال ضابط كان يسكن بجوارى، كان لديه احساسا بالعظمة وتتسم تصرفاته بالغطرسة الشديدة، وكنت أرقب كيف ينتظره سائق السيارة لأكثر من ساعتين، لكن كانت قضيتى أيضا عن بعض الشباب الذين تم القبض عليهم فى أحداث 18و19 يناير وقد أتيح لى الاطلاع على أوراق التحقيق الذى تم معهم وكيف تعرضوا للتنكيل والتعذيب، ولم أكتب الفيلم ضد أحد لكن ضد تغول السلطة بشكل عام، لكننا واجهنا مشاكل رقابية، وطلبت مديرة الرقابة تحويل شخصية البطل من ضابط شرطة الى صحفى وكان شيئا مضحكا، وتم تحويل الفيلم لتشاهده جهات امنية أخذوا يحولون المشاهد الى رموز، فاذا فتح البطل الثلاجة ووجدها فارغة يقولون ان المشهد يرمز لمصر وكأنها فاضية، وهكذا وقفوا عند كل مشهد وحين شاهده رئيس المباحث العامة حينذاك اللواء مصطفى عبد القادر قال هذا الفيلم يجب أن يدرس لطلبة الشرطة، وكان مع الفيلم قلبا وقالبا وتم عرض الفيلم دون أن حذف مشهد واحد منه، وقد عرض لأول مرة خارج مصر فى مهرجان موسكو السينمائى، واستقبل بحفاوة كبيرة حتى أنه تم عرضه فى بعض المقاطعات السوفيتية، وبدأت مهرجانات عديدة تطلبه بالاسم، بل وصدر السيناريو فى كتاب، وكان توفيق صالح يدرسه للطلبة فى معهد السينما.

مشوار عمر

7 ـ تأليف الكتب

(ثمانية كتب عن السينما حملت توقيع الناقد الكبير رؤوف توفيق، رصد من خلالها العديد من التجارب السينمائية المصرية والعالمية، ودون فيها مشاهداته المختلفة فى المهرجانات العالمية).

بدأت رحلة رؤوف توفيق مع تأليف الكتب عام 1974 باصدار كتابه الأول «السينما عندما تقول لا »، ليصدر جزئه الثانى بعد نحو عشرين عاما تحت عنوان «السينما مازالت تقول لا» راصدا من خلالهما كيف تصدت السينما للأوضاع والأفكار الخاطئة والمدمرة ، وفى عام 1977 أصدر كتابه «سينما الحب» ثم «سينما الزمن الصعب »–عام 1980 ، و «سينما المرأة -1983» ، «سينما الحقيقة – 1988» ، «سينما المشاعر الجميلة -1996» و«سينما اليهود – دموع وخناجر» الذى صدر عام 1997.

وهكذا بقيت السينما حاضرة وبقوة فى كل كتابات رؤوف توفيق كناقد وكاتب سيناريو ومؤلف، ولايزال يرى الأفلام بعين محب ولهان، يسعد، ويغضب ويثور أحيانا، لكنه يظل من عشاق السينما المخلصين.

Exit mobile version