«سينماتوغراف» ـ أحمد شوقي
من بين أحد عشر فيلما شاركت في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة لمهرجان الأقصر للسينما الأفريقية، والذي انتهت دورته الرابعة مساء السبت الماضي، امتلك فيلم «ران» أو «Run» للمخرج الإيفواري فيليب لاكوتPhilippe Lacote مكانة فنية خاصة، ويمكن بثقة أن نعتبره الخاسر الأكبر في المهرجان، بعدما خرج خال الوفاض من المهرجان الذي قررت لجنة تحكيمه منح جائزتها الذهبية للفيلم المصري «الفيل الأزرق».
«ران» كان أشهر الأفلام المتسابقة في دائرة المهرجانات الدولية، حيث سبق له أن شارك كاختيار رسمي في قسم «نظرة خاصة» بمهرجان كان السينمائي 2014. وإذا كان القسم المذكور يهتم عادة بعرض أفلام تحمل تجارب سردية مغايرة، أو أفلام آتية من ثقافات مختلفة عن المصادر المعتادة، فإن فيلم المخرج الإيفواري الشاب يمكن اعتباره اختيارا مناسبا تماما للقسم. أما أمام لجنة التحكيم الأفريقية فيبدو أن للأمور حسابات أخرى.
طرح خارج التيارات السائدة
أول وأبرز ما يمكن ملاحظته في الفيلم هو اختلافه الواضح عما اعتدنا مشاهدته من السينما الأفريقية عموما، ومن سينما دول غرب أفريقيا بصورة خاصة. فأغلب الأفلام الأفريقية الحديثة يمكن تصنيفها ضمن تيارين كبيرين: المتأمرك والمستشرق.
التيار المتأمرك يحاول أصحابه تقليد أفلام النوع بنكهة أفريقية، يحاولون صناعة أفلام أكشن وأخرى رومانسية وكوميدية، مع بعض الأخلاقيات والكثير من بدائية الحرفة بحكم عامل الخبرة. لتأتي هذه النوعية عادة بأفلام ساذجة حتى لو امتلك أصحابها حرفة متطورة، ونذكر مثال شهير لها هو «نيروبي نصف حياة» أو «Nairobi Half Life»، فيلم الكيني توش جيتونجا الذي أغرم الجميع به في الأقصر قبل عامين وانتزع الجائزة الكبرى، بالرغم من كونه لا يزيد فنيا عن فيلم حركة أمريكي متوسط المستوى. مثال آخر من دورة هذا العام هو الفيلم المالاوي «بيلا» أو «B’ella» للمخرج تاونجا تادجا نخونجيرا، حكاية مراهقين مليئة بالمواعظ والانقلابات الميلودرامية، لا يشفع لها إلا قدومها من دولة تتعرف بالكاد على فن السينما.
على النقيض يمتلك التيار الاستشراقي الكثير من الأعمال الجيدة، والكثير من الأعمال الرديئة قطعا. وهو تيار متأثر بالسينما الغربية والفرنسية تحديدا، يمكن اعتباره رد فعل مستمر للسينما الاستعمارية التي أساءت كثيرا لصورة المجتمعات الأفريقية، فجاء رد الفعل بإعجاب متناه بكل ما يمتلك رابطا إثنيّا بالقارة. هي سينما إثنوجرافية حتى وإن لم تقل هذا صراحة، مفتونة بالعادات والطقوس والأساطير الأفريقية، موجهة عادة لمشاهد ذو ذوق غربي انتقل من حالة «يالها من قارة متخلفة» قبل عقود، إلى حالة «يالها من قارة مليئة بالأعاجيب» حاليا.
أفريقيا قطعا مليئة بالأعاجيب التي تستحق المشاهدة، وفي «ران» تلمح من أساطيرها أثنتين على الأقل، لكن الفيلم لا يضعها في معرض عرقي عن غرائب القارة، بل ينسجها في سرد سينمائي خاص بالفيلم، بحيث تكون قيمة الأسطورة مرتبطة بوجودها داخل هذا السياق الفيلمي، لا أن يكون ثقل الفيلم نابعا من الأسطورة التي يعرضها، وهذا فارق يمكن أن يلمسه من يقارن بين فيلم لاكوت وأفلام أخرى عُرضت من قبل في الأقصر، مثل «كينيا رواندا» أو «Kinyarwanda» للرواندي ألريك براون و«الطقس والمجنونة وأنا» أو «The Rite, the Lunatic and I» للتوجولية جينتل مينجويزاني، فلو حُذفت طقوس الزواج السحرية في توجو أو الحرب الأهلية الرواندية لن يبقى لنا فيلما نشاهده، بينما الأمرين متواجدين في الواقع بشكل مجرد يمكن القراءة عنهما وتوثيقهما بعشرات الأشكال.
على النقيض لو نزعنا أسطورتي صانع الأمطار والفيل من «ران» سيظل فيلما جيدا متماسكا، حتى وإن صار أقل قوة وشاعرية، بينما الأسطورتين منفصلتين لا يبدو لهما نفس القوة والتأثير، ولا يمكن أن يتواجدا في أي سياق آخر غير فيلم فيليب لاكوت، وإلا سيتحولان لأمر مغاير تماما.
لاحظ أننا وصفنا الحرب الأهلية الرواندية بالأسطورة بالرغم كونها حدث واقعي، لأنها تحولت في المخيلة السينمائية إلى أسطورة استشراقية، بمعنى أن المشاهد الغربي سيرحب مشاهدة فيلم عن الحرب الأهلية بمثل قدر ترحيبه بحكاية من تراث القارة. تماما كما سيرحب بفيلم عن الثورة المصرية أكثر من فيلم عن أزمة نفسية لإنسان مصري.
بناء ثري وجو عام مثالي
الفيلم يبدأ بشاب يرتدي ملابس غريبة «راجع أفيش الفيلم»، ظنّ معظم الحضور أنها ملابس أفريقية تقليدية، قبل اتضاح أنها مجرد أسمال يرتديها المجاذيب. الشاب يمسك بمسدس يوجهه لشخص لا نعرف من هو، يطلق النار ويفر هاربا. في المشاهد التالية يتضح حقيقة الحدث: مجذوب يعيش في الكنيسة الكبرى يطلق النار على رئيس الوزراء، لتبدأ حملة حكومية للقبض على المجاذيب، وقتل من يحاول منهم الفرار، ليتحول قرار البطل ران إلى مصدر للمزيد من التعاسة لنفسه وللآخرين، مثل معظم ما آلت إليه تصرفاته السابقة.
التصرفات السابقة نعرفها تباعا، بعد أن يتوقف تتابع البداية المستقبلي «فلاش فوروارد Flash forward»، ونعود لنقطة البداية في حياة ران، عندما أنضم لمعيّة ساحر عجوز، حالما بأن يصير صانع أمطار، أي كاهن يستعين به البشر لإنزال المطر. هذا هو الحلم الوحيد الذي أمتلكه ران، والذي فشل في تحقيقه لأن قلبه عند اللحظة المطلوبة كان أضعف من إتخاذ فعل قاس، وبعض القسوة مطلوب أحيانا.
ران ينتقل بين ثلاثة عوالم متتالية، عالم السحر وصناعة الأمطار، عالم الاستعراض الأفريقي بعمله مساعد لامرأة تدعى «جلاديس الأكولة»، تدور على القرى لتقدم عرضا تأكل فيه كل يقدمه لها أهالي القرية، والذين يقومون بتضحية غير منطقية على اعتياديتها، يقدمون قوتهم القليل ليسعدوا بمشاهدة سيدة سمينة وهي تأكله. أما العالم الثالث فهو عصابات المناضلين الوطنيين الإيفواريين، الذين ينادون بهوية البلاد في وجه التواجد الأجنبي، ويستخدم السياسيون حماسهم وإندفاعهم كأداة للضغط وقت الحاجة.
من عالم لعالم ينتقل ران في رحلة لم يختر أبدا أن يخوضها، في كل مرة يهرب خائفا فيجد نفسه جزء بسيط من عرض كبير، عرض يحمل في المرات الثلاثة حسا أسطوريا واضحا، لكنه حس آت من رحم البناء الفيلمي، من قرار المخرج بخلق أسطورة فردية ذات طبيعة تسلسلية كرونولوجية chronological، تتساوى فيها قيمة كل الحكايات في تعميد الشخصية الرئيسية لجعلها كافية للحظة الذروة التي يبدأ بها الفيلم: قتل زعيم المناضلين السابق الذي صار رئيس وزراء بألعوبة سياسية.
تساوي القيمة لا يأتي فقط في تأثير الحكايات التراكمي على نفسية ران، ولكن في تعامل صانع الفيلم فيليب لاكوت مع كل منها باعتبارها حكايته الرئيسية، يرسم جوّها العام بإتقان، عبر اختيار موقع للتصوير، مجموعة الألوان، الفصل المناسب من السنة، وبالطبع التصوير والتمثيل وإيقاع السرد في كل حكاية، والمرتبط بشريط صوتي ثري يتغير العنصر الحاكم فيه (التعليق الصوتي – الصمت مع المؤثرات – موسيقى الريجي) في كل حكاية عن الأخرى، ليمتلك كل جزء من الفيلم جوّه العام atmosphere المناسب، وهو شيء نادر الحدوث في أفلام أفريقيا السوداء، أن يتواجد مخرج قادر على خلق جو عام مواز للسرد الفيلمي.
محصلة فيلمية ليس إلا
«ران» عمل سينمائي بامتياز، من صنع مخرج حقيقي تمكن من استخدام العناصر المعتادة في السينما الأفريقية لصياغة فيلم لا يشبه معظم أفلام القارة. ستجد بعض الأساطير، وبعض الخلفيات السياسية، الموسيقى الصاخبة ومشاهد الغابات، لكن هذا كله مجموع في سياق واحد اسمه الفيلم، يضيف إليه ويستمد قوته من التواجد داخله، لتكون المحصلة النهائية له فيلمية بالأساس، وليست إثنوجرافية أو تأريخية أو سياسية، وهو إنجاز فني يستحق التقدير، حتى وإن خرج من المهرجان بلا جوائز.