القاهرة ـ سينماتوغراف: لمياء فتحي
افتتح أسبوع النقّاد الدوليّ- أحد البرامج الموازية بـ «مهرجان القاهرة السينمائيّ» بالفيلم التشيكيّ- البولنديّ «رحلة إلى روما» بحضور مخرجه البولنديّ المولد توماش ميلنيك، وهي التجربة الأولى له حيث يمثل الفيلم مشروع تخرّج ميلنيك من مدرسة السينما التشيكيّة «فامو»، وقد رشح الفيلم من قبل لجائزة شرق الغرب بمهرجان كارلوفي فاري الدوليّ.
«رحلة إلى روما» تجربة سينمائيّة خاصّة لمخرج شابّ يستمدّ العديد من المرجعيّات الفنيّة والسينمائيّة، وخبراته الشخصيّة في صناعة عمل حيويّ ما بعد حداثي، فيعد مشوار ميلنيك نفسه في دراسة تاريخ الفنون ومن ثمّ دراسة الإخراج السينمائيّ مرجعاً هامّاً في هذا الفيلم، بدءاً من أوّل مشهد حتى قبل نزول التتر، مرورا بقصة الفيلم واحداثه وتصوراته.
تدور الأحداث في إطار فانتازي -على حدّ قول المخرج- غير واقعيّ مطلقاً، سواء من ناحية الحبكة، أو من ناحية التصوير وتكوين الكادرات. فها هو «فاشيك» حارس المتحف يقع في فخّ سرقة لوحة من لوحات المتحف ويحاول بيعها من أجل توفير مال كافّ لعلاجه الوهميّ. تلك القصّة البسيطة هي نقطة انطلاق الفيلم الذي يضمّ الكثير من الحكايات الفرعيّة التي ترويها الشخصيّات الأخرى الثانويّة.
يظهر اهتمام «ميلنيك» الواضح والقويّ بالفنون التشكيليّة منذ البداية، حيث بداية الفيلم ببعض اللّوحات الفنيّة حتى نتعرّف على «فاشيك» حارس تلك اللّوحات بالمتحف، وتأثير ذلك على التكوينات البصريّة للفيلم، وقد أفصح «ميلنيك» في حوار معه أنّ الصورة الفيلميّة في فيلمه مستوحاة من الفنّ القوطيّ وعصر النهضة، وهو ما بدا واضحاً ، حيث أصبحت الكادرات نفسها عبارة عن لوحة فنيّة من عصر النهضة، أو تحتوي على إحداها، كما عمل على رسم كلّ كادر على حدة، فأصبح كلّ كادر يعبّر عن لوحة فنيّة أخرى يرسمها «ميلنيك» بنفسه.
عمل «ملينيك» على الاستخدام القويّ للألوان، والكادرات المغلقة التي تشبه اللّوحات التي يحرسها «فاشيك»، حتى أنّه لم يكتفِ بذلك، بل عمل أيضاً على رسم النوافذ والأبواب بأسلوبه الخاصّ، فنرى مثلاً نافذة الدكتور المرسوم عليها القمر بشكل فانتازي، وكذلك نوافذ القطار الذي يمثّل جوهر تجمع الشخصيّات الأخرى بالفيلم.
اعتمد المخرج على بناء دراميّ غير تقليديّ، وهو ما عبّر عنه أثناء مناقشته بعد الفيلم، حيث قال إنّ البناء الدراميّ للفيلم لم يكن بالشكل التقليديّ، حيث أنّه يعتبر السينما فنّ الصورة، ولذلك يريد فقط أن يبني من خلال الصورة، لا من خلال الأحداث الدراميّة والبناء الأرسطيّ الكلاسيكيّ، وهو ما يناسب رؤيته في الحياة، ولذلك جاء الفيلم غير واقعيّ، يميل أحياناً إلى سيرياليّة بونيويل، ويخاطب الأفراد من خلال رؤية سينمائيّة بصريّة متميّزة. كما جاءت الشخصيّات تشبه بورتريهات جان مونيه، خاصّة الأطفال.
اهتمّ «ميلنيك» بالشخصيّات الثانويّة بالفيلم، وجعلهم يشاركون بالحدث من خلال رواية قصصهم الخاصّة وحكاياتهم التي يضفي عليها نوع من الكوميديا، حتى القصص الدينيّة منها التي يرويها القسّ، وتظهر كلّ حكاية منهم تناقضات الآخر، فيسخر من المتديّنين تارة، ومن غير المتديّنين تارة أخرى، البولنديّين وغير البولنديّين، حتى أنّه قام بإضفاء لقطة ثانويّة كوميديّة معبّرة عن تلك التناقضات، وهي ركوب رجل عربيّ بجلباب خليجيّ مع القسّ سائق تاكسي الاعتراف، فبرغم من أنّها لا تتعدّى الثانيتين وقد لا يراها الكثيرون، إلّا أنّه اهتمّ بوجودها.
من أهمّ الرسائل التي ألقاها «ميلنيك» أثناء مناقشة الفيلم: «لا تكن عقلانيّاً»، وهو ما اعتمد عليه في فيلمه رحلة إلى روما، يريد أن يعبّر عن الحياة غير العقلانيّة التي يراها من خلال الفيلم، فتظهر مظاهر اللّامعقول من خلال الأحداث الخياليّة غير المنطقيّة على سبيل المثال لا الحصر: اختفاء الأفراد بدون سبب، اختراع المراهق الصغير لجهاز يقوم بتحويل الماء إلى خمر، وغيرها من الأشياء الأخرى التي تعّبر عن لا عقلانيّة الحياة.
كما استخدم «توماش ميلنيك» مواقع تصوير غير واقعيّة تتناسب مع نوع الفيلم الذي يقدّمه، فيرجع لبدائيّات السينما بتصوير العربة داخل اللوكيشن، والقطار أيضاً، وقد أرجع «ميلنيك» خلال المناقشة أنّ سبب تصويره في تلك المواقع واختيار تلك الإعدادات له صلة بالميزانيّة المحدودة للفيلم، ولكن السبب الأقوى لذلك الاختيار هو عدم عقلانيّة الحياة في نظره، لذلك جاءت مناسبة لأجواء الفيلم، فقد أشار إلى أنّه يريد أن يعبّر عن عالمه هو، عن أفكاره ومشاعره الخاصّة.
يتداخل التراث مع الحداثة، كما تتداخل الحقيقة بالخيال في فيلم «رحلة إلى روما»، فيستخدم «ميلنيك» صورة سينمائيّة بألوانها التي ترجع لسبعينيّات القرن الماضي، ويمزجها بأحداث غير واقعيّة، كما يجعل الشخصيّات تتنقل ما بين القديم والحديث، فعندما يسأل الشابّ المراهق القسّ عن القدّيسين وخطاياهم، فيروي قصّة القديس أنطونيو وإعجابه بفتاة، ثمّ يأتي به إلى المدينة مرتدياً زيّاً حديثاً، كما يصوّره بصورة «البيدوفايل» أو المولع بالأطفال، فيعمل «ميلنيك» على التداخل المقصود للأزمنة المختلفة.
يمثّل الفيلم بأحداثه وصوره وتكويناته مرجعيّات عديدة ومختلفة لكثير من المجالات الفنيّة، فالعديد من المشاهد تشعر أنّها مألوفة لديكِ، أو قد شاهدت مثيلتها في فيلم ما من قبل، وقد تختلف تلك الأفلام أيضاً فيما بينها من حيث أسلوبها ونوعها، أو حتى قد شاهدتها في الحياة اليوميّة رغم غرابتها، حيث لا معقوليّة الأحداث، ولا معقوليّة الصورة أيضاً، يتجمّع كلّ ذلك في تجربة جديدة لمخرج جديد في بداية مشواره الفنيّ.