استغرق تصويره خمس سنوات في 11 دولة
«سينماتوغراف» ـ أمل ممدوح
يخطو الفيلم الوثائقي أو التسجيلي بسرعة كبيرة محدثا طفرة في طريقة صناعته، ذلك أن الحدود بينه وبين الفيلم الروائي لم تعد فاصلة تماما أو قاطعة، فالتوثيق تحالف مع منطق الفيلم الروائي في الصورة والتكوين والسياق حبكة الأحداث، فضلا عن رصد الجوانب النفسية للأبطال.
ومن ضمن هذا النوع من الأفلام نتوقف مع الفيلم التسجيلي «رعي السماء ـ grazing the sky» إنتاج 2013 للمخرج الفرنسي «هوراشيو ألكالا» وهو إنتاج مشترك أسباني وبرتغالي ومكسيكي، وقد فاز بجائزة النقاد ولجنة التحكيم لأفضل فيلم تسجيلي في مهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية، منتقيا عالم السيرك موضوعا له .. لكن بشكل جديد مختلف عن الشكل التقليدي الشائع في تناول هذه الموضوعات، فهو يصور مجموعة من عاشقي السيرك بألعابه المختلفة جاءوا من مختلف بلاد العالم إلى مدينة مدريد بأسبانيا لتكوين فرقة عالمية للسيرك، راصدًا عالم كل منهم وقصة عشقهم لفنون السيرك وربطها بحياتهم وأحلامهم تجاهه خاصة في وقت أصبح فيه السيرك مهنة مورثة تمتهنها أسر محدودة معروفة.
يوضح الفيلم عمق العلاقة الآسرة التي نشأت بين الجميع والتي يبدو فيها التآلف والانسجام والمحبة التي أسسها حب أكبر يجمعهم، وهو حب السيرك وفنونه، وقد نجحت الصورة في إضفاء حالة عشقية ساحرة لممارستهم فنونهم سواء بشكل فردي أو جماعي من خلال الحركة البطيئة التي تعكس حيوية أدائهم بشكل أقرب للحلم خاصة بمساعدة الإضاءة التي أعطت نفس التأثير بالابتعاد عن الألوان الصريحة وامتزاج الإضاءات واستخدام الفلاتر الزرقاء اللائقة بحلم في بعض المشاهد وحركة الظل والنور التي تضفي تأثيرا تشكيليا يساهم في خلق عالم ساحر أخاذ وتأثير أكبر وأعمق للحركة، فالتعبير البصري كان أداة هامة لوصول الحالة الشعورية المطلوبة، وهذا يرجع بقدر كبير لمهارة التصوير والفهم العميق للمضمون، وهناك مشاهد شكلت لوحات تشكيلية بشكل بسيط لكن بدلالات كثيرة، شارك في ذلك شخصيات العمل الطبيعية بتنفيذ حركاتهم بشكل فني للتصوير وهو تطويع جديد للفيلم التسجيلي نحو الروائية أو الامتزاج بها.
تجبرنا موسيقى الفيلم ومؤثراته على التوقف معها فقد أسهمت بشكل قوي في وصول المشاعر الضمنية للمشاهد والأشخاص، مع تنوع في اختياراتها بحسب مضمون المشاهد وإن كانت السمة الغالبة دائما جاذبيتها، فالموسيقى بطبيئة.. شاعرية أثناء التدريب، ثم يسرع الإيقاع وتزداد حيويته كلما اقترب المتدربون من حالة الإجادة المرجوة والإتقان المأمول.
إن الموسيقى في هذا الفيلم تمنح المشاهد شعورا بأنه يحلق في السماء، أو أنه مستغرق في صلاة كأنه ينصت إلى تراتيل كنسية، خاصة عند ممارسة فادي الفلسطيني لتمريناته فوق الجبل بخشوع متعبد، بالإضافة لمؤثرات صوت ضحكات الأطفال في بعض المشاهد التي تبرز حركاتهم البهلوانية، فكل منهم بدا بأدواته الخاصة التي يعشقها في عالمه الخاص جدا أقرب إلى السماء، ولذا كان يمكن باستخدامها تقليل بعض مناطق الحكي والسرد نوعا والذي أجده طال في الفيلم أكثر مما ينبغي، ومع ذلك فالفيلم استطاع إضفاء ارتباط وتشويق بحياة الشخصيات لا بالصورة فقط من خلال المونتاج وتقطيع السرد ومروره على الشخصيات كلها ثم الرجوع إليها من جديد، لنتتبع مسار قصصها.
ومن أرق القصص التي جذبنا لها الفيلم قصة المتدرب الذي أصيب في السابق أثناء تمرنه مع زميله ليحاول من جديد ويتخطى إصابته وخوفه من الفشل، وترصد الكاميرا هذه اللحظات الدقيقة بشكل عميق يغني عن التعليق من خلال التركيز القريب على حركة الأيدي في الصورة لتروي وحدها بدقة ما بداخل أصحابها من خوف وأمل، ويسهم الحوار من خلال بعض جمل مضيئة في رسم عالم الشخصيات ودواخلهم وطبيعة العلاقة التي تربطهم بهذا الفن، منها جملة على لسان أحد الشخصيات في حديثه عن ارتباطه بعالم السيرك «إنها حفلتي».
استعرض الفيلم دوافع الشخصيات للعمل بالسيرك، فهناك أفراد لا ينقصها شيئ، فيمكنهم أن يرتاحوا في وظيفة تقليدية مجزية وسط أسرة مرفهة، وهناك فادي الفلسطيني الذي يتعامل مع السرك بوصفه بابًا لتجاوز مأساة وطنه وأحزانه الشخصية، وهناك وآخرون يخوضون رحلة التعبير عن الذات باختيارهم هذا الفن بكل صعوباته.
بالتأكيد يكمن وراء هذا الفيلم الذي استغرق عرضه حوالي 127 دقيقة، الكثير من الجهد، فقد استغرق تصويره خمس سنوات يمكننا أن نشعر بتكثيفها الغزير في هذه المدة والتي كان يمكن اختصارها قليلا فتزداد تكثيفا وتشويقا، فقد صور الفيلم في بلدان مختلفة تتكون من 11 دولة، وقام فنانوه بأدوار البطولة بما يتطلبه الأمر من تدريب إضافي لتشكيلات الصورة، كما نتصور حجم فريق العمل فيه ومدى تطوره، ليخلق الفيلم حالة توثيقية عميقة وشاملة ببعد ومذاق روائي جسد أبعاد الموضوع وعمقه وحالة عشق إنسانية نجح في إبرازها، ودعتنا إلى مطاردة أحلامنا.