حلقات يومية يكتبها ناصر عراق لـ «سينماتوغراف»
المصريون يخففون عن أنفسهم ويضحكون مع علي الكسار في رمضان 1942
يبدو أن المصريين لم يجدوا وسيلة للتخفف من أعباء الحرب العالمية الثانية وغلاء الأسعار والإهانة الإنجليزية للملك فاروق حين حاصرت الدبابات قصر عابدين في 4 فبراير من عام 1942.. أقول يبدو أنهم لم يجدوا أفضل من الضحك على سذاجة علي الكسار في شهر رمضان المبارك عندما استقبلوا يومه الأول في 12 سبتمبر من عام 1942.
غارات وغلاء وإهانات
بدأ العام الجديد – 1942 – بالأخبار العاصفة التي توردها الصحف عن انتصارت جيوش المحور – ألمانيا/ إيطاليا/ اليابان – في الحرب العالمية الثانية، وكان وضع الإنجليز وأشياعهم من الحلفاء – فرنسا/ الاتحاد السوفييتي- لا يسر عدوًا ولا حبيبًا، وكان الملك فاروق قد وصل في حقده على الإنجليز إلى مستوى غير مسبوق، لأنهم يتحكمون في البلد الذي يحكمه، ومن عجب أنه رفض طلب إنجلترا بإبعاد 13 موظفا إيطاليًا يعملون معه في القصر لأنهم يمثلون خطرًا عليها كما ذكر السفير البريطاني بالقاهرة لامبسون. ونكاية في الإنجليز منح الملك فاروق الجنسية المصرية لخادمه الخاص بوللي الإيطالي الجنسية والذي أشيع عنه أنه منظم الليالي والسهرات الماجنة للملك.
في الأول من فبراير 1942 (خرجت المظاهرات تهتف لفاروق وروميل – القائد العسكري الألماني – وانتشر الشعور المعادي لبريطانيا، وظهرت الأعلام الإيطالية على المنازل وفي نوافذها) كما تقول الدكتورة لطيفة محمد سالم في كتابها (فاروق من الميلاد إلى الرحيل).
لقد تذكر الإنجليز ثورة الشعب في ثورة 1919، وهي في حال حرجة جراء الحرب التي تكاد تخسرها، فأمرت الملك فاروق بتغيير وزارة حسين سري باشا الموالي لإيطاليا وتشكيل حكومة جديدة برئاسة مصطفى النحاس باشا رئيس حزب الوفد لأنه حزب الأغلبية، ولأنه سيوافق على تفعيل معاهدة 1936 التي تقضي باستعمال مصر كقاعدة حربية في الشرق الأوسط عند نشوب حرب تهدد مصالح بريطانيا.
وبالفعل نجح الإنجليز وفرضوا النحاس وانصاع الملك بعد أن حاصروا قصر عابدين بالدبابات، وانقهر الشعب، لكنه ظل يعاني من الغارات وارتفاع الأسعار (عدد المصريين كان نحو 16 مليون نسمة في ذلك الوقت).
الهروب إلى الضحك
ما إن هلت بوادر شهر رمضان الكريم في 22 سبتمبر، حتى ملّ المصريون السياسة وغدرها والساسة وألاعيبهم، ومنحوا أنفسهم إجازة من العمل العام ومقاومة الإنجليز، ليتفرغوا للصوم في الصباح، وقضاء الليل في السهر والذهاب إلى السينما، ويبدو أن الحرب أثرت على عملية الإنتاج السينمائي، فلم تعرض طوال الشهر الكريم سوى فيلمين فقط هما (علي بابا والأربعين حرامي) للمخرج المصري اليهودي توجو مزراحي الذي شاهده الناس في 18 سبتمبر من عام 1942 أي سادس أيام الشهر الكريم، وفيلم (بحبح في بغداد) للمخرج حسين فوزي الذي عرض في 12 أكتوبر 1942 أي قبل انقضاء رمضان بنحو عشرة أيام.
الفيلمان هجرا الحاضر المشتعل وغاصا في الماضي السحيق. والفيلمان رفضا الجهامة وانحازا إلى استدرار الضحك إلى درجة السذاجة أحيانا، والفيلمان لم يقتربا من الاحتلال وحادث 4 فبراير والغارات، فالفيلم الأول بطولة علي الكسار وقد استلهمت قصته من ألف ليلة، والمدهش أن المخرج اليهودي هو الذي كتب السيناريو والحوار، والثاني بطولة فوزي الجزايرلي الكوميديان الشهير في النصف الأول من القرن العشرين.
هذه هي مصر في ذلك الزمن البعيد.. شعب محتل ومع ذلك يصر على الحياة ويتمسك بها، يصوم رمضان ويتعبد في النهار، لكنه لا ينس نصيبه من الدنيا، والدنيا هنا هي السينما بسحرها وجمالها وخيالاتها، فيرتادها بعد الإفطار ليحلق بعيدًا عن الملك والانجليز والغارات والغلاء!.