رمضان والسينما في ثلاثين عامًا (الحلقة 9 من 30)

حلقات يومية يكتبها ناصر عراق لـ «سينماتوغراف»

توقفت العروض الجديدة ثلاثة أشهر ونصف

المصريون يهجرون السينما حزنا على اختطاف فلسطين عام 1948

 

ضاعت فلسطين، فانفطرت أفئدة المصريين، وانهزم الجيش المصري على يد عصابات اليهود، فانجرح كبرياء شعب النيل، وزهد في المتعة والحياة حينا من الدهر، ومر على الناس شهر رمضان والحزن لم يغادر قلوبهم، فلم يرتادوا السينما، ولم يحاولوا تمضية الوقت في الترفيه والتسلية، وإنما انشغلوا بالمصيبة التي حلت، والواقعة التي وقعت.

وللمرة الأولى منذ عام 1943 لم يحدث أن تعرضت السينما لأزمة مشابهة إلا في سنة 1948، ففي سنة 1943 – وقت اشتعال الحرب العالمية الثانية – توقفت دور السينما عن عرض أفلام جديدة لمدة ستة أشهر متصلة، وبالتحديد من أبريل إلى أكتوبر، أما في عام 1948 فقد حدث الأمر نفسه، وإن كان عدد الشهور قد انخفض إلى ثلاثة ونصف الشهر، وبالتحديد من 24 مايو حتى 7 سبتمبر!.

لا شك أن أول أيام رمضان مرت على المصريين وهم يعانقون الجراح النازفة، التي تزيدها شمس الصيف التهابًا، فقد كانت غرة رمضان توافق 8 يوليو من عام 1948، وشمس يوليو كما تعرف لا تعرف الرحمة لا بالصائمين ولا بالمفطرين، وللمرة الثانية تتوقف السينما عن عرض أي فيلم جديد في الشهر الكريم، ولا يجد المصريون شيئا لتمضية الوقت سوى الحديث عن فلسطين الضائعة وإسرائيل المزعومة!.

الملك والإنجليز

اختطفت فلسطين بسبب السياسات الفاسدة في مصر، وقد بلغ الصراع بين الملك فاروق وحزب الوفد مستوى بائسا، لدرجة أن الخوف (استمر يراود فاروق من إمكانية إتمام الاتفاق بين بريطانيا والوفد، وكان ذلك من الأسباب الرئيسية التي جعلته أحيانا كثيرة يرتمي في حضن الإنجليز، وطغى عليه هذا الشعور عقب هزيمة حرب فلسطين وتصعد الموقف الداخلي) كما جاء في كتاب (فاروق من الميلاد إلى الرحيل) للدكتورة لطيفة محمد سالم.

وكان فاروق قد انزى عن الشعب (بعد فشله في الحصول على الشعبية التي يتوق إليها عندما دخل حرب فلسطين)، وفقا للكتاب المذكور، وهكذا امتلأت صدور المصريين بالغضب، وراحوا يلعنون فاروق والأحزاب ورجال السياسة، لكن كان للسينما رأي آخر!.

غزارة في الإنتاج

برغم توقف السينما عن عرض أفلام جديدة لمدة ثلاثة أشهر ونصف الشهر كما فات عليك، إلا أن عام 1948 شهد غزارة عجيبة في كمية الأفلام الجديدة المعروضة على الناس، حيث بلغ عددها 51 فيلمًا، أي أقل مما عرض في العام السابق – 1947 – بثلاثة أفلام فقط لا غير. الأمر الذي يعني أن هذه الصناعة كانت في ازدهار كبير، حيث تم افتتاح دور عرض كثيرة في جميع أحياء القاهرة تقريبًا، ومعظم مراكز الوجه البحري، وحيث صارت السينما جزءًا بالغ الأهمية في حياة الملايين.

في النصف الأول من عام 1948 – أي قبل نكبة فلسطين – قدمت السينما مجموعة من الأفلام المتنوعة كوميدية واجتماعية، والنصف الثاني فعلت الشيء نفسه ولك أن تعرف أن فيلم (عنبر) لليلى مراد وأنور وجدي عرض في الأول من نوفمبر من تلك السنة بسينما ستوديو مصر، في حين أن سينما رويال عرضت في اليوم نفسه فيلم (فتاة من فلسطين) للمخرج محمود ذو الفقار وبطولته مع المطربة سعاد محمد، وهو أول فيلم يتناول قضية الاحتلال الإسرائيلي، ودور الفدائيين الفلسطينيين في مجابهته.

يتعجب المرء من هذه الاستجابة السينمائية السريعة لحادثة سياسية، فالمأساة وقعت في مايو والفيلم عرض في نوفمبر، لكن يبدو أن الوجع كان أكبر من أن يسكت عليه صناع السينما، ومادام الوجع خارج حدود مصر، والسينما لن تنتقد الملك فاروق، فلا مانع من التعرض له، ومن يدري فقد ننتصر ونستعيد فلسطين!.

Exit mobile version