حلقات يومية يكتبها ناصر عراق لـ «سينماتوغراف»
لم يهتم الشعب باغتيال حسن البنا وواصل ارتياده للسينما
المصريون يقاومون الإحباط العام بمشاهدة نور الهدى وكمال الشناوي في رمضان 1949
لماذا السينما؟
في اعتقادي أن الإنسان لم يخترع شيئا – حتى الآن على الأقل – أهم وأجمل من السينما من حيث قدرتها الفذة على تقديم صورة موازية للعصر الذي تدور أحداث الفيلم من خلاله. لقد انتبه الإنسان منذ زمن بعيد إلى ضرورة تسجيل الوقائع والأحداث التي تمر به أو يمر بها، والمكتبات العامة والخاصة تضج بآلاف الكتب التي تتناول التاريخ بموبقاته وفضائله، لكن السينما أمر مختلف.. إنها تاريخ حي.. مترع بالحرارة والدفء.. تاريخ من دم ولحم يمشي على قدمين، فالسينما لا تغادر كبيرة أو صغيرة إلا وأحصتها، ولكنه إحصاء فاتن وآسر، وليس إحصاءً جافا ورتيبًا. هنا تحديدًا يكمن سحر السينما وفرادتها.
المناخ العام
في عام 1949 (تفاقمت المظاهرات وعمت الاضطرابات وانتشرت حوادث العنف وبلغ الفشل منتهاه بالهزيمة في حرب فلسطين، وعدم الوصول إلى اتفاق مع بريطانيا – بخصوص الجلاء عن مصر – ومن ثم ازداد الحنق عليه – الملك فاروق – وانتقدت تصرفاته، وكان ذلك ثمن تقربه للإنجليز).
هذا هو المناخ العام في مصر في تلك السنة كما ذكرت الدكتورة لطيفة سالم في كتابها المدهش عن فاروق الذي يصفه أحد مسئولي الخارجية البريطانية مستر روبرت عند زيارته إلى مصر في تلك الفترة: (لا أحد يقول كلمة طيبة عن فاروق، وفضائحه تتداول على المقاهي وفي المجالس الخاصة أو العامة أو ذات المستوى).
هذه السمعة الرديئة التي يتمرغ في وحلها ملك مصر جعلت إنجترا تتوقع زوال عرشه عام 1949 مع ازدياد نبرة الغضب الشعبي العارم، الأمر الذي دفع الخارجية البريطانية إلى إعداد مذكرة عن وراثة العرش في مصر، فاحتل الأمير محمد علي القائمة ثم الأمير محمد عبد المنعم ابن الخديو السابق ويليه الأمير عز الدين حسن وأخيرًا الأمير عباس حلمي.
لقد بلغ عدد المصريين في ذلك العام نحو 17 مليون نسمة، يعيش أكثر من ثلثيهم في فقر مدقع، ومع ذلك لم يتنازلوا عن حقهم في الاستمتاع بالسينما، وقد تناسوا حادث اغتيال حسن البنا– 12 فبراير 1949 – مؤسس جماعة الإخوان ولم يحزن عليه سوى أهله وعشيرته بعد أن اغتالت الجماعة رئيس الوزراء النقراشي باشا في 28 ديسمبر 1948، وبرغم أن عدد الأفلام الجديدة المعروضة في عام 1949 بلغ 44 فيلمًا، أي أقل من العام السابق – 1948 – بستة أفلام، إلا أن السينما واظبت على عرض فيلم جديد في شهر رمضان المبارك.
هدى.. وغزل البنات
استقبل المصريون أول أيام الشهر الفضيل في 27 يونيو من سنة 1949، وفي يوم 21 رمضان، الموافق 18 يوليو عرض فيلم (هدى) للمخرج حلمي رفلة وبطولة نور الهدى وكمال الشناوي وحسن فايق وفريد شوقي، وهو فيلم اجتماعي عن مشكلات الابنة مع زوجة أبيها، وليس له أية علاقة لا بالملك ولا بالفقراء ولا بالاحتلال ولا بالإخوان! وهذه عادة السينما المصرية على الدوام.. الابتعاد عن المناطق الشائكة، والاستغراق في تفاصيل المشكلات الاجتماعية وصراع الآباء والأبناء وقضايا العشق والغرام لينتهي الفيلم في الأغلب بنصيحة أو حكمة يلقيها البطل الحائر والضائع طوال أحداث الفيلم، الأمر الذي يجعل هذه السينما مجرد أداة للتسلية، لا وسيلة لإثارة الفكر أو حض الناس على مقاومة الحاكم الظالم أو الاحتلال المتجبر!
ومع ذلك فقد شهد عام 1949 آخر أفلام نجيب الريحاني (غزل البنات/ 22 سبتمبر 1949) إخراج وبطولة أنور وجدي وليلى مراد، وقد أقبل الناس على مشاهدة الفيلم بكثافة ناسين حسن البنا ومصرعه، متعاطفين مع المدرس العجوز الفقير، فرحين بشقاوة ليلى مراد.. سعداء بموسيقى عبد الوهاب وصوته.. ساخطين على الباشا وحياة الأثرياء اللاهية!.