«سينماتوغراف» ـ ليلى صويلح
إذا كانت عوالم المخرج الياباني، ريوسوكي هاماغوتشي المعتادة، التي تجلت في فيلميه “أساكو” 1 و2 (2018)، و”عجلة الحظ والفانتازيا” (2021)، تركز بشكل أساسي على نساء يخضن رحلات مختلفة لاكتشاف ذواتهن الحقيقية؛ فإنه في فيلمه، (الذي زادت حظوظه في اقتناص الأوسكار الـ94 عن فئة الفيلم الأجنبي، بعد حصده جائزة أفضل سيناريو في “مهرجان كانّ السينمائي الدولي”)، “قودي سيارتي” Drive My Car، يأخذ اتجاهاً مختلفاً، من خلال رحلة منهكة يقطعها بطل الفيلم، محاولاً اكتشاف الحقائق التي أدت إلى خسارته لزوجته.
من خلال مقدمة طويلة (40 دقيقة)، نتعرف إلى يوميات الممثل والمخرج المسرحي يوسوكي (هيدتوشي نيشيجيما) وزوجته الكاتبة الدرامية أوتو (ريكا كيريشيما)، ونعايش طقوسهما الخاصة؛ إذ تستلهم أوتو حكايات نصوصها بعد ممارسة الجنس مع يوسوكي، وترويها له كل ليلة، كما شهر زاد أيضاً، تسجل أوتو بصوتها نصوص يوسوكي المسرحية ليستمع إليها ويحفظ حواراته أثناء قيادته للسيارة. بعد إلغاء رحلة يوسوكي إلى أحد المهرجانات، وعودته إلى المنزل بشكل مفاجئ، يكتشف خيانة أوتو.
بعد هذه الحادثة، تتوضح شروخ العلاقة وتزداد مساحة الأسرار بين الزوجين، فأوتو لا تعلم باكتشاف يوسوكي لخيانتها، وهو لا يتجرأ على مصارحتها بما رآه. وقبل أن يحسم قراره، يعود ذات ليلة إلى المنزل، ليجدها ميتة بنزيف دماغي. بعد سنتين، يسافر يوسوكي إلى مدينة هيروشيما لإخراج عرض متعدد اللغات، هو إعادة إنتاج لمسرحية الكاتب الروسي أنطون تشيخوف، “الخال فانيا”. يلاحق القدر يوسوكي عن طريق أحد الممثلين المتقدمين للمشاركة في المسرحية، فالقدر عامل رئيسي في أفلام هاماغوتشي؛ إذ إن الصدف تقود شخصياته دائماً، وتغير مصائرها مهما حاولوا الهروب. من هنا، تبدأ رحلة يوسوكي الحقيقية: رحلة داخلية متأزمة بهواجس تخص أوتو، وأخرى خارجية يقضيها مع السائقة الصامتة الغامضة ميساكي (توكو ميورا) التي عيّنها القائمون على العرض لقيادة سيارته من وإلى الفندق.
“السيارات تشبه مناطق عازلة عاطفية محايدة، تشجع على الكشف الصريح، محادثات حميمة تولد فقط داخل تلك المساحة المغلقة والمتحركة”. هكذا يعلّق هاماغوتشي على الدور الذي تلعبه السيارات في بعض أفلامه، إذ تدور فيها حوارات قادرة على تغيير مجرى السرد والإفصاح عن أسرار قد تغير مصائر الأبطال. السيارة القديمة ذات الطابع الحميمي، هي بمثابة ملجأ وبيت ليوسوكي؛ مكان يهرب إليه ويمارس جزءاً من عمله في حفظ حوارات مسرحياته. لكن صوت أوتو حاضر دوماً عبر المسجّل، وهي تؤدي حوارات شخصيات تشيخوف، هي دائماً جزء من عالمه وذاكرته، كيانه لا ينفصل عنها، خاصة في أكثر الأماكن حميمية بالنسبة إليه؛ سيارته بلونها الأحمر وطابعها الفريد. تدور عجلات السيارة الحمراء، ومعها يدور شريط التسجيل، ويبدأ طريق البوح. وبمرور الأيام، تصبح السيارة غرفة اعتراف لركابها، سواء بلسانهم، أو بلسان شخصيات “العم فانيا”، فطوال الفيلم هناك خيط غير محسوس بين المسرح والحياة الواقعية ليوسوكي.
الفيلم مقتبس عن قصة بنفس الاسم من مجموعة قصصية لهاروكي موراكامي “رجال بلا نساء”، تدور عن رجال فقدوا حبيباتهم لأسباب مختلفة. ولكن ذكاء سيناريو هاماغوتشي (الذي كتبه بالاشتراك مع تاكاماسا أوي)، يأتي من اتخاذ قصة موراكامي بثيماتها حول الفقدان والغيرة والخسارات، والمؤلفة من 40 صفحة فقط، كنقطة انطلاق، والتوسع في ربطها بمسرحية تشيخوف “الخال فانيا”، وما تعانيه شخصياتها من حيرة وندم بعد فوات الأوان. ومن خلال أصوات شخصياتها المرافقة لصمت الشخصيات في الفيلم، وبالانتقال بالتناوب بين عالم تشيخوف وعالم يوسوكي، يتداخل الفن مع الواقع، ليعكس دواخل الشخصيات ويساعد في إيصال ما لا يستطيعون التعبير عنه.
“قُدرت لنا هذه الحياة، علينا أن نستمر في العيش”. جملة مشتركة بين يوسوكي والخال فانيا؛ فما يربط شخصيات الفيلم وشخصيات تشيخوف، هو محاولة الاستمرار في الحياة والتصالح معها، رغم حداد كل منها المغلف بالذنب أو العجز أو الندم. “قودي سيارتي” عمل غني روحياً ومذهل بصريًا، عن الحب والخيانة، والفقد والندم.. وعن علاقة الفن بالواقع، مع سؤال ممتد طوال الفيلم: هل يمكن لجراح الماضي أن تندمل؟.