القاهرة ـ «سينماتوغراف»
خرج إلى النور أخيراً الفيلم المصري “زينة” والذي يعالج ملفاً حيوياً في مجتمع الصعيد أو سكان جنوب مصر، حيث تمثل مسألة الإنجاب قضية مصيرية تؤثر على مدى الاستقرار الأسري والعائلي، لأنها ترتبط غالبا بالميراث والعزوة والجذور، وتوضع عليها رهانات كبيرة، مادية ومعنوية.
ويبحث الأزواج والزوجات عن كل السبل التي تحقق لهما هذا الهدف، وقد لا يتورع البعض عن اللجوء إلى السحر والشعوذة اعتقادا منهم في إمكانية الإنجاب عن طريق هذه الوسائل التي تنتشر في ظل أجواء اليأس والإحباط في البيئة الاجتماعية عندما لا يسعف العلم الناس في الحصول على مرادهم بالسرعة الممكنة.
وتصل مدة الفيلم المصري الوثائقي “زينة” إلى نحو 18 دقيقة وتعالج بشكل مكثف قضية صعوبة الإنجاب واللجوء إلى الحقن المجهري كخيار علمي صاعد لتحقيقه من خلال أسرة بسيطة تعيش في صعيد مصر يرضخ فيها الزوج إلى إرادة الأم للضغط على زوجته لعلاج عدم الإنجاب باللجوء إلى شيخ دجال اسمه جلال، لكن الزوجة تقاوم هذه الطريقة وتفضل الذهاب إلى طبيب متخصص في الحقن المجهري، ومجرد تخيلها للشيخ جلال وهو يصطحبها لمكان مثير للرعب تصاب بالخوف وتطرد من رأسها فكرة الاستعانة به في ومضة سريعة.
وشارك الطبيب إسلام سعيد في التمثيل، وهو صاحب فكرة الفيلم أيضا، وتمكن بتلقائيته وعدم الرهبة من الكاميرات والمصورين من أن يجسد باتقان دوره الحقيقي في الحياة في الفيلم، ما وفر له و”زينة” عامل الصدق في جوانبه العلمية ومناقشة قضية مازالت لا تحظى باهتمام كبير في المجتمع المصري للتغلب على صعوبات الإنجاب.
وأخرج الفيلم وكتب السيناريو الخاص به أيمن عبدالحميد، وشاركت فيه الفنانة هاجر الشرنوبي التي قطعت شوطا كبيرا في الدراما المصرية وبدأت تزحف نحو السينما مؤخرا، حيث جسدت دور “زينة” التي جاء منها اسم الفيلم، ووقفت في مواجهة زوجها الفنان محمد علي لتقنعه بالطريقة الحديثة للتغلب على صعوبة عدم الإنجاب.
ويمثل إنجاب البنين في صعيد مصر عصب الحياة لدى الكثير من الأسر، ومع انتشار التعليم والثقافة والانفتاح والتغير في بعض المعتقدات أصبح إنجاب البنات لا يقل أهمية، وهي رسالة ضمنية انطوى عليها فيلم “زينة” لمعت في تقبل الأب للمولودة زينة التي سميت على اسم والدتها.
وتنبع براعة الفيلم في اختيار فكرته الصعبة والجذابة معا، حيث لا تزال التوعية بالحقن المجهري ملتبسة في المجتمع المصري، ولا تحظى باهتمام كبير من قبل وسائل الإعلام وتحتاج لتبسيط علمي وشرح ديني لقبولها، وهو ما جعل اللجوء إليها شحيحا.
وربما يسهم فيلم “زينة” في التريوج لهذه الفكرة مع تزايد المراكز الطبية المعنية بها، وتزايد عدد الأطباء الذين أتقنوا هذا النوع من العمليات الدقيقة وتوفير العلاج اللازم لها.
وأدت براعة الطبيب إسلام سعيد فيها إلى التأثير في البيئة التي خصص جانبا كبيرا من وقته لها، وهي محافظة أسيوط الواقعة في قلب صعيد مصر، ويبدو أنه لمس بنفسه حجم المعاناة الإنسانية التي يواجهها البعض جراء عدم الإنجاب بسبب الزوجة أو الزوج، والذي قد يدفع أحيانا إلى اللجوء لأدوات غير مشروعة، وهو ما أراد سعيد محاربته لتجنب الدخول في تعقيدات مجتمعية تقود إلى استخدام سبل مُحرمة دينيا.
ورغم قصر المدة الزمنية للفيلم، إلا أن الدروس التي يقدمها متعددة وعميقة من دون تقصير في الأدوات الفنية التي منحت العمل بريقا، إخراجا وتصويرا وديكورا وتمثيلا، تجعل المشاهد يشعر أنه أمام صناعة متقنة وغير مكلفة ماديا وتلعب دورا مهما في مجتمع يتعامل مع السينما بأنواعها على أنها تلك التي تقدم في صالات العرض.
في حين أن المنصات الجديدة ومواقع التواصل الاجتماعي المختلفة تنشط في هذا المجال، وضاعفت من رواج العديد من الأعمال الفنية، الأمر المتوقع لفيلم “زينة” والذي يمكن أن يرشح للدخول في مسابقات خاصة بهذا النوع من القضايا، فالنشاط الملحوظ في السينما التسجيلية بمصر أخذ يجذب الكثير من المهارات الفنية، لأنها تمكن أصحابها من تقديم رؤى ذات أهداف مجتمعية بعيدة.
وإذا كانت رسالة الفيلم الأساسية الانتصار للعلم، فهي أيضا محاربة الجهل بالتطرق إلى منابعه الرئيسية بلا خجل، ومجرد استعراض الوسائل المستخدمة لتكريس الثاني في المجتمع تكشف التناقض في حياة البعض الذين يتقنون استخدام وسائل التواصل الاجتماعي ولديهم قدرات جيدة من الإلمام بالتكنولوجيا ومع ذلك يؤمنون بالخرافات.
وحوى الفيلم إشارة لأنواع متباينة من الخرافات في سياق مشهد عابر وكاشف لجوهر الرسالة التي يريدها صناع الفيلم، فهناك يقين في أذهان رجال وسيدات أن المرور على المقابر يؤدي للإنجاب والعبور على حقل لزراعة الباذنجان يفضي للحمل.
وهذه من النماذج القليلة المتداولة من معتقدات خاطئة، ويكفي استعراضها في لقطة واحدة للمقارنة بين الجهل والعلم، فالأول غيبي لا يستند للعقل، بينما الثاني يأخذ بالأسباب، وهي المفارقة البسيطة التي تثبت أن العقل “زينة” كما يردد أهالي الصعيد.
وقد حاول الفيلم أن ينقل صورة مما يحدث على أرض الواقع، فوقع في خطأ قد ينعكس سلبا على رسالته عندما حضر زوج زينة ولادتها داخل غرفة العمليات مع الأطباء.
ربما كان الهدف نبيلا ويعكس تجارب حية تحدث في الصعيد، لكن نقل المشاهد يمكن أن يؤثر على مصداقيته أمام الجمهور العام، خاصة أن الفيلم أمامه فرصا ليعرض في مهرجانات دولية أو إقليمية لأهمية قضيته.
ويؤكد فيلم “زينة” أن المجال رحب في مصر للسينما التسجيلية والمستقلة التي بدأت تخرج عن النمطية في طريقة التناول الفني وطرح الأفكار المقدمة والإشكاليات التي تتطرق لها، وأتاحت فرصة لجيل من الشباب للتعبير عن مواهبهم التي دائما ما تكون مبتكرة وتبحث عن الجديد في الحياة وتتطرق إلى قضايا تحدث فعلا في المجتمع.
وتتيح هذه الأفلام فرصة أيضا لبعض الممثلين الجدد، ومنهم من يقفون لأول مرة أمام الكاميرا، كما أن الاستعانة بنماذج حقيقية مثل حالة الطبيب إسلام سعيد، وحالة دميانة نصار في فيلم “ريش” من إخراج عمر الزهيري، تمنح العمل صدقا وواقعية واقناعا يساعد في عملية توصيل الأهداف التي يتضمنها العمل بسهولة.