«سينماتوغراف» ـ عبد الجليل لبويري
حينما وقفت سعاد حسني في نهاية الخمسينات وهي لم تتجاوز السادسة عشرة من عمرها أمام كاميرا هنري بركات في فيلم «حسن ونعيمة»، كان عليها أن تتسلح أولاً بكل مقومات التحدي لشروطها الاجتماعية التي لم تسعفها في التعليم، لأنها نشأت في أسرة متعددة الإخوة والأخوات ومتواضعة الموارد ( ليس من أهدافها ربما أن يتابع الولد الدراسة العليا و بالتالي البنت) كما صرحت يوماً، لكن كان عليها فنياً تجاوز ما كان يبدو مستحيلاً حتى تجد مكاناً في لائحات نجمات السينما المصرية السابقات منهن مثلاً ماري كويني، نعيمة عاكف، وعزيزة أمير، أو الموجودات بالفعل في عصرها مثل فاتن حمامة، مديحة يسري، هند رستم، وزهرة العلا، في فترة كانت فيها السينما المصرية تعيش عصرها الدهبي، لأنها كانت أكثر ثراءاً من حيث الإنتاج ما جعلها تعد السينما العربية بامتياز، إلا أن ما كان يبدو مستحيلاً أصبح قابل للتحقق في ظل ما كانت تعيشه السينما المصرية في نهاية الخمسينيات من تحولات عميقة في بنيتها الفكرية نتيجة المد القومي و التغيرات العميقة بمصر التي كان على السينما أن تتفاعل معها بالبحث عن كينونة جديدة ووجوه أنثوية بديلة و جديدة، لا تحمل معالم الاستقراطية، ولا مقاسات الجمال الغربي.
كانت السينما المصرية في هذه الفترة كما أكد بعض المتتبعين تبحث عن نجمة لها سمات «بنت» الشعب ونظرات الشعب لتستجيب لوعي السينما المصرية الجديد، وهو ما وجده هنري بركات في وجه وفطرية سعاد حسني ليقدمها كنموذج للبنت المكافحة التي تبحث بنفسها عن الحب في فيلم «حسن و نعيمة»، لقد اتفق العديد من الدارسين لمسارها بأن دورها في هذا الفيلم وعفويتها في هذه القصة الشعبية عاملاً مؤسساً لبزوغ تحول جديد في معيار النجومية، وذلك بتقديم «نجمة من الشعب، ناطقة بلسانه و مكتسبة ملامحه»، وهو ما فتح لها شرايين قلوب الجماهير منذ الوهلة الأولى لتنهال عليها العروض بشكل مدهش، بدليل أنها حطمت رقماً قياسياً في الأدوار في عامها الثاني فنياً بتمثيلها لخمسة أفلام، لتبدأ في بناء صرحها كنجمة بدون منازع، وهو ما أكده «حسن صيفي» الذي تعامل معها في بعض الأفلام من مثل «حكاية جواز»، بالقول « تفوقت سعاد حسني على كل بنات جيلها، وأصبح لها لون متفرد فرضته موهبتها الفطرية التي لم تكن نابعة من دراسة أو ثقافة وإنما من إحساس متدفق»، وهو ما يؤكده الناقد «أشرف غريب» حينما كتب قائلا ً: ( لم تكن نجومية سعاد حسني من النوع التقليدي أو ما يمكن تسميته بالنجومية الهادئة، إنها من الأسماء القليلة في تاريخ السينما العربية التي صنع الجمهور نجوميتها الطاغية منذ اللحظة الأولى، ووصل بها هذا الجمهور إلى أعلى درجات العشق و التفضيل).
تتميز فيلموغرافيا سعاد حسني بالغنى والتنوع من حيث الأدوار من خلال ما يناهز 74 فيلماً سينمائياً تعاملت من خلالها مع معظم المخرجين الكبار مثل علي بدرخان، عاطف سالم، حسن الإمام، صلاح أبو سيف، ووقفت أمام عمالقة التمثيل أنذاك مثل عمر الشريف، حسن يوسف، شكري سرحان، نور الشريف، وغيرهم من أهرامات الغناء كعبد الحليم حافظ في فيلم «البنات والصيف».
لم يكن الفضل في نجومية سعاد حسني للأسماء الكبيرة من الممثلين و المخرجين الذين تعاملت معهم فقط، بل أيضاً لحرصها الشديد على الاختيار وقراءة السيناريو لتعرف حدود إمكانياتها في الاندماج مع الدور، و هو ما أكده السيناريست « رأفت الميهي» الذي كتب لها خمسة أفلام، بقوله (كان لسعاد حسني رأي أساسي في السيناريو، لأنها من النوع الذي يقرأ السيناريو، وهذا يخلق حالة شد وجذب، ومن هذا الشد والجذب تعلمت من أستاذتها سعاد حسني رغم أنها لم تكن متعلمة ومثقفة بالمعنى الاصطلاحي، كيف تكتب الجملة وتكون مريحة للمثل).
لقد استطاعت سعاد حسني أن تصبح الشخصية نفسها وهي تتقمص عدة أدوار مختلفة ومعقدة بل ومختلفة من حيث الأبعاد الداخلية للشخصيات التي تقمصتها بنفس الدرجة من الإقناع، من ممثلة شابة في فيلم (الضوء الخافت) لفطين عبد الوهاب، إلى مريضة نفسية في فيلم (بئر الحرمان)، إلى الزوجة الغانية في (القاهرة30)، إلى قروية غامضة في شريط (حب في الزنزانة)، إلى أرملة في فيلم (الراعي و النساء)، معتمدة بدرجة أساسية على فطريتها، وقدرتها على التعبير بملامح الوجه بدليل شهادة رأفت الميهي الذي أكد على أن (أدواتها المميزة في الأداء تكمن في قدرتها على استعمال عينيها، فالتعبير بالعينين هو أقوى ما في الإنسان، كذلك سعاد حسني ليس لها تفاوت بين قدرتها على تجسيد شخصية شعبية أو أرستقراطية فهي تتقمص كل الألوان).
يرجح البعض أن نجاحها هذا يرجع إلى طموحها أولاً، وهو ما عبر عنه ( محمد الصاوي)، بالقول (كانت تحلم بأن المستحيل ممكن، وأن الصبر تاج للوصول إلى الأمل، وأن السعادة حق أصيل من حقوق البشر)، لكن ثانياً لقدرتها على التحدي، فهي وفي نظر الباحثين في سيرتها ومسارها، لم تكن تتحدى فقط زميلاتها من نجمات المرحلة مثل «هند رستم» التي وقفت أمامها في فيلم (إشاعة حب) لفطين عبد الوهاب، بل كانت تتحدى نفسها أيضاً حينما تقدم شخصية مزدوجة في نفس الفيلم على نفس الدرجة من الإجادة والقوة كما في فيلم (نادية) من خلال أداء دور الشقيقتين التوأم، المتشابهتين في الشكل المختلفتين في الصفات الشخصية، كل هذا جعل علاقتها بالجمهور علاقة خاصة ووجودية، حدد لها الناقد «إبراهيم العريس» عدة ركائز متداخلة وهو يبحث عن سر نجوميتها، بالقول (أولاً أنها كانت قريبة المنال، فبسمتها المحلية، ولهجتها العربية كانت تبدو وكأنها في انتظار كل واحد من الجمهور، وثانياً هي أنها تشبه بنت الجيران أو الأخت المحترمة، و ثالثاً هو أنه نادرا ما كانت نهايات أفلامها سعيدة)، وإذا كان بعض النقاد يحاجون بملكاتها الفنية في النجاح، فإن بعضهم الآخر كان يرى أن الشرطين السياسي والاجتماعي كانا لهما دورهما المؤثر في تلك النجومية، لأن سعاد حسني كانت من خلال بعض أفلامها بمثابة الإجابة السياسية والاجتماعية للمرحلة التي عايشتها، خصوصاً بعد هزيمة 67 من خلال بعض الأعمال التي حضر فيها الوعي السياسي من مثل فيلمي (أهل القمة) و (الكرنك)، أو من خلال أعمال اجتماعية عبرت عن الإزدواجية التي عاشتها المرأة العربية بصفة عامة في ذلك الوقت مثل فيلم (بئر الحرمان) الذي أنهى على حد تعبير الناقد «أسامة عبد الفتاح» عصر الحريم في السينما، بقوله ( كانت سعاد حسني نقطة تحول رئيسية من عصر الحريم في السينما المصرية، إلى عصر المرأة الفاعلة المؤثرة، المرأة البطلة لا بمساحة الدور، ولكن بحجم قيادتها).
ربما هذه الطينة من الأفلام ذات النفحة التراجيدية خصوصاً بعض أقلام السبعينيات هو ما يؤرخ به البعض لمرحلة نضجها الفني، من خلال بطولتها لبعض الأفلام المقتبسة عن أعمال أدبية لعمالقة الأدباء الذين كانت لهم وجهة نظر في قضاياهم الاجتماعية والسياسية مثل يوسف السباعي، طه حسين، نجيب محفوظ وغيرهم، إلى جانب كل هذا تميزت السندريلا بقدرتها على الآداء الاستعراضي رقصاً و غناءاً، إلا أن لمعان هذه النجمة بدأ يخفت تدريجياً بداية من منتصف السبيعينيات، نظراً لتراجع عدد الأفلام السنوية التي تمثل فيها، لتتعدد تأويلات ذلك بين من يرى أنها وصلت إلى فترة نضجها المتكامل الذي جعلها أكثر حرصاً على اختيار الأدوار، وبين من يعتبر أن ذلك حتمياً في حياة كل نجم سينمائي حينما يصل إلى مرحلة الإشباع من طرف الجمهور، وبين من يحيل ذلك إلى أن سعاد حسني أدركت وإن بتأخر بأن التعامل معها سينمائياً لم يكن من أجل موهبتها، لكن من أجل استغلالها تجارياً، وهو ما قد يكون ولد لها صراعا داخلياً، لتقرر بداية من 1991 عزلتها عن الأنظار و انزوائها حتى لحظة رحيلها الغريبة في صمت بكل ما واكبها من فرضيات.
حياة سعاد حسني هي النموذج الشاخص للعديد من نجوم السينما العالمية الذين قرروا الرحيل بطريقة احتجاجية مريرة على توحش الرأسمال الصناعي السينمائي الذي يصنع معبوداً من لحم ودم، حتى حينما تشيخ ملامحه، أو تنتهي و ظائفه في الاستجابة إلى مرحلته، ليكسره بعد ذلك بالإهمال والنسيان.