سعاد حسني.. سندريلا السينما التي أختفت في مدينة الضباب

«سينماتوغراف» ـ محمود درويش

استحقت عن جدارة لقب «سندريلا السينما المصرية»، وأسرت قلوب الملايين من الشباب وكانت فتاة أحلامهم لما يزيد عن الثلاثين عاما بخفة ظلها ورشاقتها وجمالها الشرقي. هكذا كانت سعاد حسني، التي ولدت في مثل هذا اليوم 26 يناير من عام 1943، ورحلت عن عالمنا في 21 يونيو 2001 بعد أن قدمت للسينما أكثر من 100 فيلم.

ولعل أهم ما يميز مسيرة السندريلا الحافلة أنها كانت صاحبة إرادة وطموح مكناها وهي الفتاة غير المتعلمة أن تتربع على القمة في مجالها دون منافسة لسنوات طويلة بل وتنافس سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة على الفوز بحب الجماهير، وحتى على لقب أفضل ممثلة في تاريخ السينما المصرية.

حسن ونعيمة

البداية مع «حسن ونعيمة»

لم يكن يتوقع الكاتب الراحل عبد الرحمن الخميسي عندما اختار سعاد حسني بنت الـ17 عاماً لبطولة فيلم «حسن ونعيمة» أن تكون هذه المراهقة هى أسطورة السينما العربية على مدار ثلاثة عقود كاملة، حيث لم تكن لسعاد حسني مع مطلع عام 1959 أى صفة سوى إنها الشقيقة الصغرى للمطربة نجاة الصغيرة، التي لم يسبق لها دخول المدرسة من قبل، ولكنها تمكنت بمفردها من إتقان القراءة والكتابة والحديث بلغتين أجنبيتين، لتضعها الصدفة في طريق صديق العائلة عبد الرحمن الخميسي الذي كان يستعد لتحويل مسلسله الإذاعي الشهير آنذاك «حسن ونعيمة» إلى شاشة السينما، واستقر على بركات مخرجاً وعلى المطرب محرم فؤاد في دور حسن، ليقع في غرام وجه سعاد حسنى الطفولي البرئ، وترحب سعاد بخوض التجربة دون انتظار للنتائج، ولكن التجربة أسفرت عن مسيرة سينمائية هى الأكثر نجاحاُ لنجمة بالسينما المصرية والعربية على الإطلاق بعد مسيرة سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة.

السفيرة عزيزة

أنموذج فتاة الستينيات

كان التوقيت الذي ظهرت فيه سعاد حسني بالغ الأهمية في إكمال مسيرتها فالمجتمع المصري بتغيراته العاصفة مع بداية عقد الستينيات كان له رأى آخر في بطلات أفلامه، إنه كان وقتاً نموذجياً لنادية لطفي وزيزي البدراوي وليلى طاهر وبالطبع سعاد حسني التي جسدت فتاة الستينيات بكل أنماطها وتقلباتها وأفكارها التحررية، ولكن هذا لم يأت بين يوم وليلة حيث ظلت سعاد على مدار خمسة أعوام كاملة «دمية المنتجين» التي تتنقل في أدوار الفتاة المغلوبة على أمرها أو المراهقة التي تعاني من تقلب أحوالها العاطفية مع وجود بوادر ميول تمرد على وضعها هذا.

وعلى الرغم من ذلك، كانت هناك بعض الاستثناءات الخاصة ببعض أدوارها المميزة في تلك الفترة مثل دور عزيزة في «السفيرة عزيزة» (1961)، أو دور الطالبة المراهقة عطيات في «غصن الزيتون» (1962). ولكن نقطة التحول الحقيقية في حياة سعاد حسني كان في تعاونها للمرة الأولى مع المخرج صلاح أبو سيف في فيلم «القاهرة 30» (1966) والذي قامت فيه بدور إحسان الفتاة الفقيرة الممزقة بين ثلاثة رجال يمثلون واقعها وأحلامها ومصيرها الذي سينتظرها، وهو دور لم تكن سعاد تحلم بأن تقوم به وهى التي كانت قبله بطلة لأفلام خفيفة مثل شقة الطلبة والثلاثة يحبونها، وغيرها.

الزوجة الثانية

الافلات من الفخ التجاري

كان فيلم «الزوجة الثانية» في العام التالي مع صلاح أبو سيف أيضاً تأكيداً لنجاح سعاد في الإفلات من الفخ التجاري الذي كانت على وشك أن تسقط فيه، فقد حقق الفيلم نجاحاً بالغاً بصورة سعاد الجديدة فيه كفتاة ريفية ماكرة تنجح في الانتقام من عمدة قريتها، بعد أن تسبب في تطليقها من زوجها طمعاً في الزواج منها بغرض إنجاب الابن الذكر المنتظر.

بعد ذلك تحولت سعاد إلى الجانب الآخر تماماً من شخصيتها في الأفلام التالية وخاصة مع المخرج كمال الشيخ كما في دور (ناهد) الفتاة التي تعاني إنفصام الشخصية (ميرفت) في «بئر الحرمان» (1969) مروراً بدور مديحة الخائنة لزوجها ولعائلتها الأرستقراطية في فترة ما قبل الثورة في «غروب وشروق»، بالإضافة إلى دوريها المثيرين للجدل عام 1971 في «زوجتي والكلب» و«الاختيار» مع يوسف شاهين.

خلي بالك من زوزو

«زوزو».. العاصفة

كان عام 1972 عام «زوزو» بلا منازع فقد تحول فيلم «خلي بالك من زوزو» لحسن الإمام من مجرد فيلم عادي إلى أسطورة تجارية استمرت قرابة العام في دور العرض دون إنقطاع، حيث تعرف الجمهور في هذا الفيلم على سعاد حسني الممثلة والمغنية والراقصة القادرة على التحول في طبيعة شخصيتها في أي لحظة وذلك مع دور زينب الفتاة الجامعية التي لا تخجل كونها قادمة من عالم العوالم والغوزاي، ولكن يبدو أن المجتمع يريدها أن تعاني هذا القدر بعد أن يعرض علاقتها مع فتى أحلامها الثري للخطر. ويرى البعض إنه إذا كان الفضل يعود لأحد في تقديم سعاد بهذه الحيوية والعفوية بفيلم «زوزو» فإنه يرجع لصديقها وفيلسوفها الشخصي صلاح جاهين الذي ساهم في كتابة العمل وألف كلمات أغاني الفيلم التي أصبحت على كل لسان بعد الفيلم.

الكرنك

التربع على العرش

كانت بقية سنوات السبعينات بالنسبة لسعاد حسني تاكيداً لتربعها على عرش نجمات السينما المصرية على الرغم من قياماها بالعديد من الأدوار الجادة ذات الطابع الإجتماعي الجاد أو السياسي في بعض الأحيان كدورها الشهير في فيلم كمال الشيخ «على من نطلق الرصاص» (1975) و«الكرنك» في نفس العام مع زوجها السابق المخرج علي بدرخان، ثم شفيقة ومتولي مع بدرخان عام 1978 في دور شفيقة الريفية في منتصف القرن التاسع عشر الفقيرة التي تصبح عشيقة الجميع بعد تبدل حالها عقب سفر شقيقها متولي في حفر قناة السويس، لتواجه شفيقة مصيرها المأساوي عقب عودة شقيقها إلى البلدة، وكعادتها دوماً كانت سعاد موفقة للغاية في اختيار خطواتها التالية بعد أن قفزت في قطار المخرجين الجدد بالثمانينات من أمثال سمير سيف ومحمد خان الذي قدمته واحد من أفضل أدوراها على الإطلاق بفيلم «موعد على العشاء» (1981) والذي قدمت فيه دور زوجة مسحوقة من زوجها المتبلد الاحساس تقيم علاقة عفوية مع شاب بسيط يعمل كوافير، وهى الفعلة التي لن يقف أمامها الزوج مكتوف الأيدي، الذي يعصف بالشاب، مما يضطر الزوجة للانتقام من زوجها ومن نفسها أيضاً.

 

أميرة حبي أنا

صدمتها في صلاح جاهين

تأثرت سعاد حسني بأشعار وكلمات صلاح جاهين وحققت معه نجاحات منقطعة النظير تظهر بوضوح من خلال فيلمي «خلي بالك من زوزو»، و«أميرة حبي أنا»، ويرى بعض النقاد أن هناك خيطاً رفيعاً غير واضح ومعلوم ربط بين صلاح جاهين وسعاد حسني، ربما هذا السر يعرفه فقط صلاح وسعاد، أو أنهما عاشا في مأساة غير مُعلنة حدثت لهما خلال رحلتهما الفنية فأبدعا وتفاعل المُشاهد العربي مع الثنائي صلاح جاهين وسعاد حسني.

وظلت مكانة سعاد على الساحة السينمائية محفوظة خلال سنوات الثمانينات، ولكن الصدمات بدأت في التوالي عليها مع وفاة فيلسوفها صلاح جاهين عام 1986، والذي كان أشبه ببوصلتها الفنية طوال حياتها، حيث شاركها في أحداث حياتها الابداعية المؤلمة والمفرحة، وأثر في حياتها كثيراً، وكان بالنسبة إليها الساحر الطيب الذي ساعدها في حياتها وألبسها ثوب الفنان الملتزم سياسيا وثقافيا واجتماعيا من خلال أفلام مثل «الكرنك، شفيقة ومتولي، شروق وغروب»، وبرحيله بدأت أولى مراحل الاكتئاب لديها.

الراعي والنساء

بداية النهاية

وفي بداية التسعينات رأت سعاد حسني أنها يجب أن تتوقف نهائياً، ورغم نضجها الفني إلا أنها كانت في أوج مراحل الاكتئاب أثناء بطولتها لأفلام «الدرجة الثالثة» و«الراعي والنساء». آخر أفلامها. بمشاركة أحمد زكي ويسرا، حيث ادت دوراً مميزاً رغم مرضها الشديد. ويحكي مدير التصوير طارق التلمساني أنها في فيلم «الراعي والنساء»: «كانت قد وصلت لمراحل متقدمة من الاكتئاب يصعب فيها التعامل معها، ولكن ما أن تقف أمام الكاميرا، نراها قد تحولت إلى سعاد حسني التي نعرفها جميعاً بتألقها وابداعها وعطائها الغزير، وبعيدا عن الكاميرا كانت تدخل في نوبة بكاء ونحاول تهدئتها بالساعات، وبعد انتهاء مشهد واحد تطلب منا أن تبكي!».

وبالفعل نجح نوعا ما فيلم «الراعي والنساء» في أن «يرمم» بعض آثار التصدع الذي حدث بين سعاد وجمهورها، ولكن هذا القبول لم يكن بالأمر الكافي لدعم «زوزو» في مواجهة فترة مرض بالغة طالتها فترة عشرة سنوات قبل سقوطها المأساوي من شرفة منزلها في لندن عام 2001، وهى النهاية التي مازال الغموض يكتنفها كالغموض الذي ظل يكتنف حياتها ويحيط بسر موهبتها الطاغية.

حب في الزنزانة

والنهاية الغامضة لسعاد حسني لم تكن سوى امتداد لحياة مضطربة عاشتها الممثلة الأولى في تاريخ السينما العربية، ولعل وصف مضطربة سيصبح الأقرب لحياتها من أي وصف آخر من طراز حافلة أو ناجحة أو غير ذلك، فالنجاح التي حققته سعاد لم يكن مجانيا بل كان باهظ الثمن ومكلفا بدرجة رآها كثيرون مجحفة، فالفتاة التي تعودت أن تبقى تحت الأضواء وفي مقدمة الأخبار وجلسات النميمة تحولت إلى نسي منسي حيث اختفت في لندن مدينة الضباب الباردة حتى تفاجأ العالم بغيابها في الغربة التي التهمت سنواتها الأخيرة، واغتذت على معنوياتها حتى أصبحت مشاعر الصدمة في ملايين العشاق عبئا ثقيلا على كتفيها المرتكزتين على جسدها المترنح تحت تأثير رحلات العلاج الطويلة.

Exit mobile version