القاهرة ـ «سينماتوغراف»
عندما تُدقق فى وجه الفنانة الكبيرة سهير البابلى أو «سوسكا»، كما يحب جمهورها أن يناديها، وتسرح فى تلك الملامح المصرية الخالصة، وفى العينين اللتين تُشعان فطنة وذكاء، وفى الفم الذى كلما نطق، دخل المستمعون فى موجة من البهجة والمزاج الرائق، ستجد أنك تقرأ تفاصيل وملامح واحدة من أرقى وأنضج وأعذب صفحات الحياة، صفحة ترى فيها تجربة إنسانية وفنية شديدة الخصوصية والتميز.
فى أيامها الأخيرة، تعرضت سهير البابلى إلى أزمة صحية حادة نتيجة مضاعفات مرض السكر، وصدمت نجلتها «نيفين» المتابعين، قائلة: «والدتى تعانى هبوطًا حادًا وجلطة أدت إلى حدوث مياه على الرئة، حتى توقفت عضلة القلب بشكل مفاجئ، واضطر الأطباء إلى إيداعها الرعاية المركزة، وجرى وضعها على جهاز تنفس صناعى وأجهزة أخرى لمراقبة عمل الرئة ومستوى الأكسجين فى الدم».
وكشفت ابنتها عن أن الفنانة الكبيرة أجرت عملية زرع فصى كبد قبل عدة سنوات ولم يعلم عنها الجمهور شيئًا، وأنها فى حاجة لدعاء محبيها حتى تخرج من أزمتها.
وفى الوقت الذى صمدت فيه «سوسكا» أمام وحش المرض الذى هاجمها بضراوة، ولم تستطع مقاومته وفاضت روحها إلى بارئها، سيتذكر محبوها ومريدوها رحلة عقود طويلة من «الانسجام والضحك بل القهقهة» عاشوها مع هذه الفنانة العظيمة التى صنعت مجدها من بوابة موهبتها وفقط وصعدت على سلم اجتهادها، لم تستعن إلا بقدراتها الفائقة على تطويع شخصياتها فى عالم التمثيل لترتقى إلى أعلى مراتب النجاح والشهرة.
أحست «سهير» التى ولدت فى فبراير عام 1935 فى محافظة دمياط، مبكرًا بموهبتها فى التمثيل، وظلت تكتم الأمر عن أسرتها المحافظة بعض الشىء، وربما كانت تمارس التمثيل وحيدة فى غرفتها، لتنمى قدراتها وموهبتها، لأنها كانت تدرك أن ثمة مواجهة قادمة بينها وأهلها، الذين حتمًا سيعارضون أن تنخرط ابنتهم فى ذلك المسار، لكنها وبعد انتهائها من الدراسة الثانوية، كانت فكرة الالتحاق بمعهد الفنون المسرحية قد اختمرت تمامًا داخل عقلها، وعندما حانت لحظة المصارحة، واجهت رفضًا قاطعًا، لكن إرادتها هى التى انتصرت فى نهاية الأمر.
أدركت أيضًا أن دراسة التمثيل والمسرح ليست كافية، فهى تريد أن تكون فنانة تمتلك مجامع الفن من تمثيل وإلقاء وغناء عزف موسيقى وغيرها، فالتحقت فى نفس الوقت بمعهد الموسيقى العربية لتحقق ذاتها وتتيح لنفسها فرصة أكبر لتطوير قدراتها على الأداء أو بمعنى آخر: «تكون بتعرف تعمل كل حاجة فى الفن».
لكن المسرح كان الدنيا الحقيقية التى انفتحت «سوسكا» عليها، لترى عوالم أخرى من الفنون والجمال والسحر، فتلقفها أساتذتها الكبار آنذاك، وكأنها قد هبطت عليهم من السماء، ولمَ لا؟ وهم يشاهدون موهبة جبارة تتحلى بكاريزما خاصة وملامح ذات قدرات فائقة على التعبير والتنقل بين الأداءات المختلفة، فهى تضحك وتبكى وتصرخ وتكشّر وتحن وتتأوّه وتلين وتقسو وتسرح وتتألم، كل ذلك فى وقت ونفس واحد، وفى احتراف وتمكن ليس له نظير.. هم وجدوا أمامهم فنانة جاءت لتصنع المجد وكفى.
وتركت نفسها للمسرح، وفى فترة الخمسينيات وحدها أنجزت وشاركت فى مجموعة كبيرة من المسرحيات، أبرزها «شمشون وجليلة» و«سليمان الحلبى»، والشاهد فى تجربة البدايات أنها لم تحصر نفسها فى نمط فنى معين، أو بمعنى آخر، قدمت العديد من الأدوار، الكوميدى والدرامى والملحمى، ومنذ النصف الأخير من الخمسينيات وما بعدها، اتجهت إلى السينما بمشاركات محدودة فى عدد من الأفلام، أبرزها «لن أعود، المرأة المجهولة، ساحر النساء، حياة امرأة، أنا ومراتى، الحلوة عزيزة، الشجعان الثلاثة، نهر الحب، أيام الحب، جناب السفير».
في السينما لم تحظ سهير البابلي بنفس حالة الوهج والبريق المسرحي الذي حصلت عليه، على الرغم من أنها بدأت مشوارها وهى في بداية العشرينيات من عمرها وبالتحديد في عام 1957 حين قدمت دورا في فيلم “إغراء” وفيلم “صراع مع الحياة” لكنها ظلت تتنقل بين الأدوار الثانوية فشاركت في “نهر الحب” و”صائد الرجال” و”ساحر النساء” و”لعبة الحب والزواج”، وحصلت على مساحة أكبر في فيلم “يوم من عمري” أمام عبد الحليم حافظ، ودورها في فيلم “فجر يوم جديد” مع المخرج يوسف شاهين والذي عملت معه أيضا في “حدوتة مصرية”، بجانب مشاركتها أمام فؤاد المهندس في “أخطر رجل في العالم”.
وعلى الرغم من تنوع أدوارها بين الكوميديا والتراجيديا أيضا وظهور موهبتها الكبيرة فإنها لم تحصل على البطولة المطلقة إلا بعد سنوات طويلة ما بين الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي في أفلام مثل “استقالة عالمة ذرة” و”ليلة عسل” و”القلب وما يعشق”.
وتعتبر شخصية بكيزة الدرملي التي قدمتها في فيلم “ليلة القبض على بكيزة وزغلول” هي الأشهر بين أعمالها.
كانت الكوميديا، قد بدأت تطفو على مياه «سوسكا» المعجونة بالفن.. الجميع بدأ يلاحظ، وجمهورها بدأ يناشدها ويطالبها بالمزيد، كما أنها فطنت جيدًا لتلك الميزة، واستثمرتها بشكل رائع، فلم تختر لنفسها أن تكون مجرد «مُضحكة»، بل ممثلة محترفة تتوحد مع التيمة التى تؤديها، فيتماهى معها الجمهور، ويعيش حالة الضحك والبهجة غير المبتذلة والشفافية التى كانت تشع من إنسانية وبساطة الشخصيات التى تجسدها.
«سهير» استخلصت الجوانب الكوميدية فى شخصياتها وترجمتها خلال أدائها، ولم تجسد تلك الشخصيات تحت دافع «الضحك من أجل الضحك»، لكن بهدف تقديم تجربة تمثيلية مبدعة وتترك أثرها لدى الجمهور مع مراعاة اختلاف الأجيال وتطورات الزمن والثقافات.
تلك الرؤية تجسدت بشكل واقعى فى مسرحية «مدرسة المشاغبين» على سبيل المثال التى عُرضت فى عام 1973، وكانت أُبّهة أعمال «سهير» فى المسرح الكوميدى، التى لم تكن فقط مهرجانًا للضحك، لكن ماراثون يخوضه ألمع النجوم وقتها مثل سعيد صالح وعادل إمام وأحمد زكى ويونس شلبى، لاختطاف قلوب الجمهور وإسعاده، واختارت «سوسكا» المنافسة بشجاعة، من خلال شخصية المُعلمة صاحبة الدلال والنعومة التى لن تنساها الأجيال التى شاهدت العرض ولا التى لحقتها حتى يومنا هذا، لتخرج بنا إلى حالة متكاملة من الإبداع الدرامى والكوميدى، فى عمل لن يستطيع أحد أن ينكر مكانته فى تاريح «الضحك».
وفى انتقالات سلسة، تخوض «سهير» عدة تجارب ناضجة فى السينما، أبرزها فيلم «أميرة حبى أنا» مع النجمة سعاد حسنى وحسين فهمى، ثم تعود مجددًا إلى معشوقها المسرح، فتتجلى قدراتها الإبداعية فى «ريا وسكينة» مع النجمة الراحلة شادية والنجم الكبير الراحل عبدالمنعم مدبولى، ولتخرج لنا عملًا تاريخيًا آخر فى «مسرح الكوميديا»، تعيش عليه الأجيال حتى يومنا هذا، ثم تتوالى الأعمال المسرحية الناجحة لـ«سهير» فى «الدخول بالملابس الرسمية، على الرصيف، العالمة باشا، عطية الإرهابية، نص أنا ونص إنتى».
ومع اكتمال الوهج الفنى، فكرت كيف تستثمر كل تجاربها فى الدراما والكوميديا فى عمل تليفزيونى مميز على الشاشة الفضية، ليُعرض عليها مسلسل «بكيزة وزغلول».. لم تفكر «سوسكا» طويلًا وخاضت التجربة بكل فرح وإخلاص وابتهاج، وحقق المسلسل نجاحًا مبهرًا، تبعته مجموعة أخرى من المسلسلات الناجحة، أبرزها «وتوالت الأحداث عاصفة، وعم حمزة»، وسيبقى الجمهور يعيش على تلك الأعمال ويترحم على رحيل «سهير» اليوم الأحد 21 نوفمبر 2021 بعد معركتها مع المرض، ويهتف لها بصوت واحد يئن من الحزن: «مع السلامة يا سوسكا».