«سيرك كولومبيا» براءة شعب تجاه الحرب

خاص ـ «سينماتوغراف»

فيلم «سيرك كولومبيا» للمخرج البوسني دانيس تانوفيتش، صاحب الفيلم الشهير «أرض محايدة» الذي نال 80 جائزة بين العامين 2001 و2002، بينها أوسكار أفضل فيلم أجنبي وجائزة «غولدن غلوب» وجائزة أفضل سيناريو من أكاديمية السينما الأوروبية، هو الرابع له في مسيرته السينمائية، ومستوحى من رواية تحمل الاسم ذاته للكاتب الكرواتي إيفيكا ديكيتش، والتي ترد على التساؤلات المثارة حول الكيفية التي بدأت بها الحرب في البوسنة والهرسك، واعتبرها الكثيرون غير متوقعة.

ويتتبع هذا العمل المشوب بلمسة خفيفة من السخرية والحنين في إطار درامي ـ كوميدي، مصير ديفكو بونتيتش «ميكي مانوغلوفيتش» الذي يعود إلى بلدته الصغيرة مسقط رأسه في عام 1991، بعدما أمضى 20 عاماً في المنفى الألماني هربا من الشيوعية وحكم تيتو المستبد، جالباً معه غنائم ثروته الجديدة مثل سيارة مرسيدس فارهة وفتاة ألمانية جذابة وعدها بالزواج، وقط أسود يعتبره فألا حسنا في رحلة غربته الصعبة، وأموال كثيرة يبذرها ويستخدمها في التأثير على أصحاب النفوذ والسلطة لتنفيذ ما يريد.

وبمشاعر عالية التوغل داخل النفس الإنسانية وبسرد بسيط يرصد مجريات الحياة اليومية في بلدة صغيرة واقعة بجنوب غربي البوسنة والهرسك، يصوّر تانوفيتش بزوغ تلك الحرب التي عرف من قبل المخرج أمير كوستوريتسا كيف يجعلها ملهاة في تحفته السينمائية «تحت الأرض» عام 1995.

علاقات بشرية

ويقف مخرج «سيرك كولومبيا» في أحداث فيلمه على مسافة معينة من الأشياء، وهذا ما يجعله يبدو شديد الرقة في نقله لتفاصيل العلاقات البشرية وناقدا ذا بصيرة نافذة يلامس أشياء كثيرة بحس مرهف وفنانا على أعلى درجات الاحتراف يسحبنا تدريجيا إلي حقيقة لا يعلن عنها لكننا نستوعبها بفهم سياسي واجتماعي ونفسي من دون الدخول في جدليات سفسطائية، وهو ينقلنا من العلاقات العائلية إلى العلاقات بين أبناء الوطن الذي كان واحدا ثم بدأ يتمزق في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، وهي الفترة التي يغطيها الفيلم البديع.

وكما كان الشعب اليوغوسلافي في فيلم «تحت الأرض» يعزف الموسيقى حتى في لحظات الخطر، يستمر «سيرك كولومبيا» في تمرير براءة هذا الشعب حيال الحرب، حيث كان أغلبهم غير مدرك لما يحدث، وفي هذه الأجواء التي كانت أجراس الخطر تدق من بعيد وسحب الظلام تدنو، كانوا هم غارقين في كثير من الجهل ومفارقات تفاصيل الحياة اليومية.

وفي هذا السياق، تأخذنا أحداث الفيلم إلي ربوع البلدة الصغيرة في أحضان يوغوسلافيا، التي يعود إليها دافكو مستغلا نفوذ محافظها الذي يدعمه بأمواله، في طرد «ماريا ـ ميرا فولان» من بيته الذي عاشت فيه 20 عاما مع ابنها مارتن، لنعرف بعد ذلك أنها زوجته القديمة التي قرر طلاقها للزواج بالشابة الألمانية التي يأخذها في شكل استعراضي أمام الناس ليعرفها على الأماكن المحببة إليه، ومنها حديقة المراجيح التي كانت والدته تذهب به صغيرا إليها لإضفاء المرح عليه وتسليته.

أسى وحزن

وفي بيت صغير متهالك وسيئ أعطاه المحافظ لماريا درءا لعدم مواجهة صديقها الكرواتي قائد الثكنة العسكرية، نرى الأسى والحزن وهي تحاول منع ابنها من الذهاب إلي منزل والده الذي يلجأ إليه ليقضي الوقت في غرفته العلوية مع أجهزة البث والإرسال التي يستقبل من خلالها المحطات الإذاعية ومنها الأميركية، حيث يحلم بالسفر والهجرة إلى هناك.

ويرسم الفيلم في خطوط متوالية حياة اللهو التي يعيشها الشباب في تلك الفترة من خلال السباحة وركوب الدراجات ومناوشات المراهقة وحكاياتها، كما يؤكد في مشاهد سريعة وذكية الوضع السياسي للمحافظ الحالي الذي يريد بسط سيطرته على البلدة، والمحافظ السابق عضو الحزب الشيوعي الذي يتلقى التهديدات بالقتل، والثكنة العسكرية التي تستعد بالأسلحة لشن هجوم على السلطة المدنية.

ووسط هذه الأجواء، تأتي الكوميديا السوداء من خلال هروب القط داكن السواد، ويحمل ديفكو الفتاة الألمانية وابنه مارتن مسؤولية فقده ويطلب منهما البحث عنه، ما يعطيهما الفرصة للاقتراب والتفاهم أكثر وإيقاظ شرارة المشاعر بينهما، بعدما يفشل الأب في استمالة الفتاة بشراء محل تجميل للسيدات لها.

حيث تكتشف أن زوجته القديمة تعمل به والأمر لا يعدو عن كونه تصفية حسابات قديمة بينهما، ثم يعلق ديفكو منشورا لأهالي البلدة يمنح من يعثر على القط مكافأة مالية، ليعيش الجميع ـ نهار مساء ـ رحلة التنافس للعثور على القط، وفي إسقاط له معنى يتردد على ديفكو أحد الأشخاص ببلاهة واضحة عارضا عليه مرة قطاً باللون الأبيض والأسود ومرة أخرى قطاً أنثى وليس ذكرا، في براعة من المخرج تعبر عن حالة الفراغ والإلهاء الساخرة للناس في ذلك الوقت.

مواجهة ساخنة

ويسرع الفيلم إيقاعه في المشاهد الأخيرة عندما يشعر قائد الثكنة العسكرية بأن الحرب أصبحت على الأبواب، فيتفق مع ماريا على السفر إلي ألمانيا ومعهما مارتن، الذي يصر على اصطحاب صديقة أبيه ويذهب إليها ليخبرها برغبته في أن تسافر معه إلي ألمانيا ثم أميركا، فيستمع الأب لحوارهما وتكون المواجهة الساخنة مع زوجته ماريا القادمة إليه لينقذ ابنهما من ميليشيات المحافظ المحتجزة له بعد إفشائه السر بإعدادهم تجهيزات لاقتحام الثكنة العسكرية، وتقسم ماريا لديفكو أنها لم تعرف رجلاً غيره وأن مارتن أبنه، وخافت منذ سنوات طويلة اللحاق به في ألمانيا حتى لا يعرف أهلها والحزب الشيوعي مكانه منها فيقتلونه.

ويبلغ الفيلم ذروته في مشاهد الختام وقد نسجها المخرج بملحمة من المشاعر الإنسانية غلفها الشجن والسخرية، بحيث لم يترك لقطة واحدة من دون أن يغزلها ببراعة وحيوية منعشة، وترحل سيارة الأب المرسيدس الفارهة وفيها القائد العسكري والفتاة الألمانية والابن الذي يكرر رحلة أبية السابقة مع فارق أن الهروب هذه المرة من الميليشيات، ثم نرى الأب بجوار حديقة المراجيح وقد عادت إليه زوجته القديمة ومعها القط الأسود التي تجده عند أطراف البلدة، ويرفع ديفكو ماريا ليجلسها على المرجيحة ويقفز وراءها لتدور عالية، وترتفع الكاميرا لتعرض من بعيد قذائف المدافع تنتشر في كل مكان.

ينتهي فيلم «سيرك كولومبيا» وكأنه ينادي كل الأجيال من البوسنة والهرسك، لتستعيد ذكرياتها حتى لا يتكرر السيناريو نفسه مرة أخرى.

 

 

Exit mobile version