تعود السينما من وقت لآخر إلي ذاكرتها القديمة، في محاولة لاستلهام أفكار سبق وقدمتها، تعيدها إلي الواجهة من جديد، برؤية مغايرة مستفيدة من تقنيات حديثة، إذ تظل بعض الأفكار غير قابلة للصدأ أو يمكن أن يطويها النسيان، محتفظة ببراقة تتحدي تقلبات الزمن، هى أفكار خالدة تبدو صالحة لكل زمان لفرط صدقها، لذا لا عجب أن يعود المخرج البريطاني جو رايت في أحدث أفلامه “سيرنو” مستمداً من قصة حقيقة وقعت أحداثها في القرن ال16 وصدرت كنص مسرحي عام 1897، وقدمتها السينما الفرنسية في أكثر من فيلم، من بينها فيلم أنتج عام 1950 ولعب بطولته جوسيه فيريه وفاز عنه بجائزة الأوسكار لأفضل ممثل، وقدمها النجم جيرار ديبارديو عام 1990 في فيلم “سيرنو” الذى ترشح لخمسة جوائز أوسكار، وشاركه البطولة كل من آن بروشيه وفينسنت بيرير، ونجح ديباردو بأدائه البارع في تجسيد شخصية القبيح الذى أحب الجميلة، كما قدمها المخرج ستيف مارتين في واحد من أشهر أعماله “روكسانا” عام 1998
وقدم مهرجان البحر الأحمر السينمائي في ليلة افتتاح دورته الأولى، أحدث النسخ التي قدمت عنها، تلك التى حملت توقيع المخرج جو رايت ولعب أدوار البطولة فيه بيتر دينكلاج نجم مسلسل صراع العروش، وهايلي بينيت، وكليفين هاريسون، وهو اختيار موفق لقصة عاطفية تدور في إطار موسيقي إستعراضي غنائي، ورغم بعض المآسي التى يحملها النص الأصلي فإن الغناء والإستعراض يضفيان عليها كثيراً من البهجة.
روكسانا الجميلة البريئة الفقيرة التى تدفعها أمها للزواج من الأمير حتى تنعم بحياة مريحة وتنقذ عائلتها من الفقر، يطارها الأمير المنبهر بجمالها، توافق على أن يصطحبها لعرض مسرحي، تهنأ الأم قليلاً بموافقتها على ذلك، لكن روكسانا المتيمة بالحب تؤكد أنها لن تتزوج سوي بمن يدق قلبها له، وتظل تترقب ظهور فارس الأحلام، حتى تلتقي هذا المجند الشاب كريستان نوفيت، تتلاقي عيناهما، وتبوح بمكنون قلبيهما، ويشعر كل منهما أنه وجد ضالته، لكن من يجرؤ على الاعتراف.
براءة وجه الممثلة هايلي بينيت تجعل الجمهور يتعاطف معها من اللحظة الأولي بجمالها الآخاذ وأدائها الحالم، فتهرع إلي صديقها الحميم سيرنو تعترف له بأنها وقعت في الحب وأن حبيبها الذى تصفه له بأنه ساحر، غامض ذكي، لا يشعر بها، تتغير ملامح صديقها تماماً، لكنه يعقد صفقة مع حبيبها، ويخبره بحبها له أثناء مبارزة جمعتهما، فيقول له سأجعلك فصيحاً أمامها واجعلني وسيماً عندها،
أزمة سيرانو التى يدركها تتمثل في قصر قامته التى تجعله أقرب لقزم، لكنه يمتلك براعة في التعبير عن مشاعره القوية تجاهها، لكنه يدرك أنه لا يستطيع البوح بها حتى لا يفقد قربه لها.
يبدو حوار الفيلم أقرب للنص الشعري، الذي يتحول إلي أغاني واستعراضات موسيقية على لسان أبطاله في لوحات فنية رائعة يشارك بها راقصين وراقصات، وتعكس قوة حب سيرنو التى تتجلي في أشعاره وخطاباته لها، فيما تعتقد روكسانا أن حبيبها كرسيتان هو من كتبها، فيزداد تعلقها به.
في أحد مشاهد الفيلم تدب الغيرة في قلب سيرنو، ويؤكد للمجند الشاب أنه لولا خطاباته ما وقعت روكسانا في حبه، فيما يتحداه الآخر ويذهب للقاء حبيبته، ويحدثها بأسلوب لم تعتده فيتملكها الغيظ، وترفض عبارات الحب التقليدية التى يرددها وتغني في حيرة “لا أريد كلاماً عادياً ولا عبارات مستهلكة، وحينها لا يجد مفراً من العودة لسيرنو فيتهلل وجهها وتتزوجه روكسانا، غير أنه يموت في الحرب ويطلب من سيرنو أن يخبرها بالحقيقة ولا يستمر في خداعها.
لن يبقي الحب الحقيقي في قلب المحب سيرنو صامتاً، بل يندفع بقوة بعد سنوات الصمت الطويلة، يخشي البطل القزم الذي يبدو مشحوناً بعواطف روكسانا البوح لها، وفي مشهد النهاية بينما يقرأ لها رسالة حبيبها الأخيرة قبل موته بالحرب، يطوي الخطاب ويظل يتلو كلماته المفعمة بالحب، وتكتشف روكسانا أنه من كان يكتب رسائل الحب إليها، وتؤكد له أنها كانت تحبه هو وانها لن تقبل بخسارته مرتين، لكنه يرفض الاعتراف بحبه، ويرفض مشاعر الشفقة، لكن مجرد سماعه لكلمة أحبك تقولها روكسانا وهى تعانق يديه في تلك اللحظة التى ظلت حلما يداعب خياله، يفقد حياته.
لقد اختار المخرج جو رايت بذكاء أن يقدم القصة في زمانها، وأن تنطق مشاهد الفيلم بكل ملامح ذلك العصر من أزياء وديكورات، وموسيقي واستعراضات ليعيدنا وأبطاله بأدائهم الصادق إلي ذلك الزمن، ليؤكد أن الحب الحقيقي لن يعترف بالفروق الشكلية ولا الطبقية.