«نورما» بيلى وايدر …. «لوغوسى» تيم بوترن
«سينماتوغراف» ـ إسراء إمام
يقول الشاعر (أندريه بريتون): «المشكلة أنك تعتقد أن لديك زمنا»
ومن منا لم يراوده ذات الإعتقاد عن نفسه، يخِل بموضع أمنه، فيجعله مطمئنا بالبقاء وكأنه مضمون بيده، ويدخر حيطته وحذره فى وجه شبح الفقد. يعتنق الديمومة، وينبذ مذهب الزوال، بل ينفيه إلى ضفة أخرى من الذاكرة، لتُهال عليه الأفكار، فيتقبل مكانه فى المؤخرة حتى يأتى الموعد المؤجل.
صحيح، كلنا عُرضة لهذا الشعور الفطرى بنسب متفاوتة. أكثرها جحيما يتّقد تحت أقدام من إختار إمتهان النجومية. وخاصة نجوم السيرة الأولى، الذين سبق لهم معاشرة عذرية الفن، فكانوا عجينة لدنة لأطباعه غير المأهولة، يتعلم فيهم بدلا من أن يُعلمهم، صابغا على أسمائهم مزاجيته المتقلبة، وقلبه الزائع.
استجابة كل فنان وآخر لهذه التقلبات الضارية لا تقف عند تبعات واحدة. فمن يكتفى بوضع قدمه فى الوحل، ليس كمن يغدقه بجسده كله. وعلى قدر التورط تأتى العواقب. وعلى هذا الأساس، انتويت أن أقدم فى هذا المقال نموذجين لنجومية قضت على صاحبها، قدمتها السينما فى فيلمين، الأول حالة مُتخيلة، والثانى محاكاة لقصة واقعية. الشقاء ذاته، والنهاية المُعدمة مماثلة رغم الفروق البينة بين طبيعة الشخصيتين والظروف التى أحاطت بهما.
Sunset Blvd (1950)
وهو فيلم من أفلام المخرج بيلى وايدر المميزة، نجد فيه قصة عنكبوتية عن نجمة تراجع خط نجوميتها إلى حد التلاشى، ولكنها فى المقابل بقيت فى مكانها من معايشته وكأنه مازال حاضرا، سجنت نفسها فيه إلى أن أمتص وجودها، ومحا حقيقة هويتها وإدراكها لما حولها.
لا بد من البدء بقصة «نورما ديزموند» ممثلة الأفلام الصامتة التى لازمت قصرها المهيب، والذى يشبه إلى حد كبير رأسها المريض. فلم تعد تخرج كثيرا إلى العالم، لتلمس واقع موتها سينمائيا، وبقيت حية على أكاذيب خادمها الذى لا يفرق عنها هوسا، مُغذيا معايشتها لكذبتها، مُنتحلا شخصية معجبين يتهافتون عليها بالرسائل ليحصلوا على صور موقعة منها، مانحا إياها فسحة كافية من السلام النفسى الذى يبعث بحماسها لإستكمال مسيرتها المهنية، مُصدقة لكونها مازالت قادرة على أن تلعب دور الأميرة «سالومى» فى فيلم من إنتاجها.
قصة “نورما” مُعقدة بما فيه الكفاية، وهو ما يُحسب لوايدر، ويجعله فى محل إشادة بصياغة مثل هذه الحبكة الإنسانية الرائعة، وغير المألوفة فى توقيتها. فـ «نورما» بكل غموضها ودهاليز دنيتها، يُطوِع لها القدر قبضة فضفاضة على عنق شاب صغير، يتعثر فى كومات ديونه وخطواته غير المتزنة فى الكتابة السينمائية. وبتلاقى الشخصيتين، تتقد شرارة الدراما، وتنعكس أزمة «نورما» بمنظور أوضح وأقسى. يُقصى كل توقعاتنا الأولية عن كُرهنا لها، ويخلق تدريجيا مرثاة تشفق عليها وتؤازرها، حتى وهى تكشف عن أقوى ردات فعلها إختلالا وإجراما.
جسد وايدر عالم نورما بصورة ناطقة، حرص فيها على ديكورات منزلها المريب والممتد كمتاهة، يقع البطل بين أفكاكها فلا يخرج منها. فبدت الديكورات أسطورية، قاتمة، لا تُنبئ بكثير من الألفة حتى بعد مرور وقت على معاشرة البطل لنورما بناء على طلبها تعديل سيناريو فيلم «سالومى» المزعوم. هذا بخلاف الإفتتاحية المثيرة للجدل التى أرادها وايدر أن تبقى فى تاريخ الفيلم كعلامة استفهام كبيرة. فمع الظهور الأول لـ نورما تُخطئ فى التعرف على هوية البطل، فتُرحب به فى منزلها بإعتبار أنه المسئول عن مساعدتها فى دفن قرد ميت، يبدو من مغالاتها الإهتمام بمأتمه أنه كان قريبا إلى قلبها. يحرص السيناريو على أن يُسجل تعليق البطل بخصوص هذه الواقعة فيما بعد، وهو يراها – بعدما اتفق معها على السكن فى قصرها طوال مدة عمله على السيناريو- من نافذة غرفته تقوم بممارسة شعائر دفن القرد بالفعل، فى قداسة وخشوع من يبكيه بُحرقة، فيقول «إلى هذا الحد كانت حياتها فارغة؟». وقد سُئل وايدر بخصوص معنى تلك المشاهد المُبهمة، فرد حينها بسخرية وقفت عند الحد ذاته من الغموض «ربما كانت نورما تضاجع هذا القرد، مثلما ضاجعت بعده البطل وانتهت بموته هو الآخر».
نورما شخصية شهوانية بحفاوة، تشربت إكسير النجومية إلى آخر قطرة، فلم تبلغ كفايتها منه، وظلت تجوع إليه حتى أتى جوعها عليها وعلى من حولها، ومنهم بطل الفيلم (وليام هولدن)، الذى قررت أن تستحوذ عليه بشكل أو بآخر- فهى أيضا نهمة فى مزاولة أنوثتها- مُبادرة إلى إغوائه بداية بالمال، ومن ثم التحصل على رجولته والإستئناس بوفرة شبابه، متمرغة فيه وهى السيدة التى بلغت الخمسين بغير إعتراف منها، ولا وعى قريب يُعول عليه. فهى على وفاء لنذورها الحياتية الأولى، نجوميتها التى كانت فى الأفلام الصامتة، ورفضها الحاسم لمفهوم استخدام الحوار والإستعانة بالصوت فى السينما. إيمانها فقد صلاحية تجدده، وظل محبوسا عند فكرة «لماذا يستخدم الممثل صوته، طالما يملك وجها؟».
(جلوريا سوانسون) التى لعبت دور نورما، فنانة تلتقى ظروفها بهامش أو بآخر من حكاية نورما. فهى فنانة أفلام صامتة، انحسرت عنها الأضواء فى وقت ما. وللمفارقة أنها كانت تعمل مع المخرج (سيسل ديميل) الذى ظهر فى فيلم وايدر، بشخصيته الحقيقية، وبإعتباره المخرج الذى كانت تعمل معه نورما وقت سطوع نجمها، بينما تحاول اللجوء إليه ليعيدها أمام الكاميرا ثانية بعدما إنتهى البطل من تعديل سيناريو «سالومى» الذى تنتوى إنتاجه. (جلوريا سوانسون) حرصت فى أدائها على بعض المسرحية اللاذعة، الحركات البلاستيكية الحادة فى زيفها، النبرة المتعالية، واللكنة الأرستقراطية المُتعمَدة. فـنورما طوال الوقت تتباهى بأموالها، وتعتبرها عصاها السحرية التى ستقود بها العالم وتُخضعه وفقا لإرادتها، مثلما فعلت مع البطل، وحينما استفاق فى النهاية وأراد التملص من شباكها، لم تتردد فى قتله، فهى تعتبر اقتناءها له تفصيلة مكملة لبزوغ نِجمها، وتحقيقه. فعلى حد قولها «لا أحد يستطيع أن يهجر نجم، وهذا الأمر فى حد ذاته هو ما يجعل أحدهم نجما».
لم يخل فيلم وايدر من لمحة إنسانية طاغية، مع كل الحرص على بث الذعر فى نفس المتفرج، وعدم إرسائه على جانب آمن حيال ردات فعل نورما، فتظل بصورتها المُشوشة أمامه حتى فى أوج لحظات تعاطفه معها، تماما مثل الكادر الذى أطلت فيه لأول مرة من وراء نافذتها، فى منظر متوارى لا يشف إلا عن شبحها من خلف الستائر، وصوتها الرفيع الذى يُجبرنا على الإنتباه والترقب.
Ed Wood (1994)
فيلم تيم بورتن غير المسبوق، الفيلم الذى يبكيك ويُضحكك، يُعرّفك ولا يُثقل عليك. يُصيغ لك قصة لا يسعنا توصيفها سوى أنها أكبر نموذج للنجاح فى الفشل. فالفيلم يسرد وقائع مسيرة عمل المخرج إد وود، الذى قد يُمثل فى حد ذاته عنصرا مستقلا للحكى فى مقال آخر. فهو المخرج الذى داوم باستماتة على تحقيق حلمه بالعمل فى السينما، وثابر على الإيمان بنفسه وبأفلامه رديئة المستوى إلى حد هزلى. حدوتة السيناريو بلغت ذورة قوتها فى الإمساك بوقع لحظات الدراما موغلة فى تأثيرها، وسائرة جنبا إلى جنب مع الحس الفكاهى النفاذ الذى يشتبك بشكل جلى فى التنفيذ. ولأن إد وود فى فترة مهمة من حياته عمل مع نجم أفلام الرعب الكلاسيكية (بيلا لوغوسى) فقد برز وجود لوغوسى داخل فيلم بورتن فى خط رئيسى وجمالى، تبينت خلاله المرحلة الأخيرة من حياة هذا النجم المشهور بدور دراكولا فى الثلاثينيات من القرن الماضي.
مأساة لوغوسى تتعلق أكثر بالظروف المحيطة حوله، فهو على الرغم من إفلاسه على المستوى المادى لدرجة لا تؤمن له قوت عيشه، إلا أنه احتفظ بعقله فى أغلب الوقت، ولم تتمكن مأساته من إفقاده توازنه بخصوص تلك الناحية، وإنما ربما آذته على المستوى النفسى الطبيعى والمُنتَظر. ولكنه فى بعض الأوقات كان يخرج عن هدوئه، ويتذمر بعقل طفولى (يذكرنا بعض الشىء بـ نورما)، ففى مشهد مثلا يُذكّره أحد العاملين بالإستديو أثناء عمله مع وود، بإسم (مورلوف) النجم المنافس له، والذى كان يشترط دوما وضع اسمه قبل اسم لوغوسى، حتى وإن كان لوغوسى بطل الفيلم. ولذلك وما إن سمع لوغوسى إسم غريمه، إنتفض وأخذ يزعق، وينتقد أداء مورلوف الذى يعتمد على المكياج والخدع، ويمتدح أداءه الذى يقوم على الصوت، وحركة اليد التى اشتهر بها وقت أدائه دراكولا (نظرية شبيهة بنظرية نورما فى حول الأداء).
انتشل وود لوغوسى من ظروف بائسة، وأعاده إلى العمل فى فيلم «عروس الذرة» وهو الفيلم الذى عانى الأمرين لكى يُخرجه إلى النور، ويتمم عملية إنتاجه. فإضطر لوغوسى فى هذه الفترة أن يتبع خيبات وود وهو يدلل على فيلمه بين حين وآخر. وكان من الفطنة والوعى، بأن يدرك كونه بصدد العمل فى فيلم رخيص فاشل، ولكن صلته الإنسانية التى جمعته بـ وود، إلى جانب إحتياجه إلى المال كانا الدافع الذى لم يدخلا حتى التردد إلى قلبه حيال الأمر. وقد عبر تيم بورتن عن كل هذه الخلطة المُعقدة بخفة دم ملحوظة، لم تاخذ من تراجيدية الفكرة، وغاية معناها. ولم يتناس أيضا، أن يحتفظ فى صورته بكادرات مرعبة بمعنى الكلمة، يحاكى فيها فيلم لوغوسى القديم، الذى لعب فيه دور الكونت دراكولا والقائم على الرواية ذائعة الصيت لبرام ستوكر. وقد استعان بورتن أيضا بالموسيقى الرئيسية لهذا الفيلم الثلاثينى الشهير فى أكثر من مشهد.
الجانب المظلم من مأساة لوغوسى يتبلور قبيل نهاية الفيلم، حيث يتعرض السيناريو لأزمة لوغوسى مع إدمان المورفين، وهو الدواء الذى كان يتعطاه لمرض إلتهاب العصب الوركى، ولكن لسوء حالته الصحية والنفسية انقلب الوضع إلى اعتباره مُخدِر تمكن من جسده وأعياه. ومع فقره المدقع هو وصديقه وود لم يتمكن من المكوث بالمصحة، وانتهى الأمر بموته.
همزات وصل
مشاهد بعينها جاءت فى الفيلمين لتوحى بتشابه سيكولوجيا النجومية، بغض النظر عن إختلاف مترتباتها ونتائجها على نفسية الشخصيتين. بينما تبقى الرغبة فى محاكاة الكاميرا حتى فى أحلك الظروف التى يمران بها أمرا محببا إلى قلبيهما. فـ نورما تبحث عن الكاميرات التى تأتى لتصورها كمجرمة اردت قتيلا لتوها فى مسبح قصرها، تتحضر وتتهندم وتتبختر على درجات السلم وهى مطلقة العنان لوهمها بأن الكاميرا عادت لتحدقها فى ملابس سالومى التى طالما انتظرت أن تلعب دورها. وفى موقف موازى، يُرحب لوغوسى بالكاميرات داخل غرفة حجزه بمصحة الإدمان، وحينما يحاول وود طردها، يلومه، ويخبره أنه سعيد بعودة الصحافة لتهتم ببيلا لوغوسى، فيقول بالنص «لا شىء يُضاهى الصحافة السيئة، فهى قادرة على أن تعيدنى بعد خروجى إلى العمل من جديد».
مشهدان آخران يتفقان فى منهج إلقاء المتفرج صريع الشعور بمعاناة كل شخصية…
ففى فيلم وايدر، وحينما تقرر نورما الذهاب إلى المخرج «ديميل» فى عقر داره بإستديو تصوير فيلمه، ترتكن فى جلستها بأحد الأماكن المنزوية، بينما يراها عامل الإضاءة ويتعرف عليها، مُسلطا فوق مقعدها بقعة كبيرة من النور، تجعلها فى مرمى بصر الآخرين، الذين يهرولون نحوها متهافتين على توقيعها وتحيتها. وحينما يأتى “ديميل” ليفض هذا الزحام، يجدها تبكى متأثرة من عودة لهفة المعجبين لتحيطها من جديد. وكأنها فى قرارة نفسها تعلم أن الرسائل التى تُرسل إليها على قصرها، كلها مُلفقة من قِبل خادمها.
وفى فيلم بورتن، وعقب خروج لوغوسى من المصحة وهو موهوم بكذبة وود قليلة الحيلة بأن صحته تحسنت، يطلب من وود أن يصور فيلما جديدا، فيأتى وود بكاميرته، متماهيا فى مجاراة لوغوسى، مفسحا له المجال ليرتجل عدة دقائق، أصبحت بالفعل مشهدا مهما وأخيرا ظهر فيه لوغوسى بالسينما بعد وفاته، فى فيلم وود «الخط 9 من الفضاء الخارجى».
آخر كلمتين:
– سُميت نورما ديزموند بهذا الإسم، تيمنا بأسماء بطلين من أبطال السينما الصامتة، «نورما تالمادج» و«يليام ديزموند تايلر».
– الإشارة إلى أن نورما كانت تزوجت أكثر من مرة، أولها من خادمها المطيع والوفى دائما لها، إضافة إلى رغبتها الجنسية والتملكية صوب «جو» الشاب، تجعلنا نضع تخمينا بأن صلاح أبو سيف استمد بعض ملامح شخصية «شفاعات» فى فيلم شباب إمرأة 1956 من نورما ديزموند.
– المطرب الشهير فرانك سيناترا حينما علم بإحتجاز لوغوسى فى المصحة، تبرع بالمساهمة فى مصروفات علاجه.